الأحد، 27 أغسطس 2017
الأدلة من الكتاب علي كفر أهل الكتاب وكفر من لم يكفرهم
[i]الأدلة من الكتاب على كفر أهل الكتاب وكفر من لم يكفرأهل الكتاب
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .وأ شهد أ ن محمداً عبدُه و رسولُه .
يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً .
يَا أ يها الذين آ منوا اتقوا الله وقولوا قَو لاً سَديداً يُصلح لَكُم أَ عما لكم وَ يَغفر لَكُم ذُ نُو بَكُم وَ مَن يُطع الله وَ رَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظيماً
أ ما بعد
أيها الأخوةالأحبة الأفاضل إن المحزن فى هذة الأيام أن يكون القدوة مجموعة من الأبالسة الذين رماهم الأعداء أمام الشباب المسلم شباب إختار الإلحاد والليبرالية والعلمانية واللادينية ناس استسهلت الطريق منهم
من سار وراء شبهاتهم واخرون وراء شهوتهم وتعمل دول مجرمة وتساند بالمال والإعلم وكل شيئ من أجل نشر الإلحاد والكفر والرزيلة وسرعان ماسار أبناء الاسلام وراء هذة الشبهات والشهوات
يلقون بالشبهات على أبناء الإسلام ولا يدرون أنها ماهى إلا شبهة
ما الذى يفعلونة ما هم إلا طحالب تريد أن تعرقل السفن العملاقة ما شبهاتهم إلا ذبابة وقعت على شجرة فلما أراد أن تطير قالت أيتها الشجرة إستمسكى بنفسك فإنى طائرة عنك فقالت الشجرة والله ما أحسست بكى وأنتى هابطة على فكيف أحس بكى وأنتى طائرة عنى
لقد جندت الدول الخائفة من المارد الإسلامى هى والتنظيمات الكافرة وغيرهم الكثير من الأشخاص
الذين يشككون فى الإسلام ودعاة الإسلام حتى أن الاعداء قدوصلوا بتشككهم فى مسلمات الدين وتبعهم أصحاب القلوب المريضة ونسوا أن هناك للإسلام حرس حدود الدين يدافعون عنة ويبذلون الغالى والنفيس ويواصلون فى بحثهم الليل بالنهار وها نحن كحرس الحدودلهذا الدين وقفنا عند شبه ألقاها الأعداء الا وهى هل أهل الكتاب كفار أم مؤمنون وهل منهم الشهداء وأصحاب الكرامات وأن منهم من هوأحسن من دعاة الإسلام ومجاهدين الأمة الكبار
وحتى لا أطيل عليكم هاكم الأدلة على كفر أهل الكتاب وكفر من لم يكفرهم
الأدلة من القران على كفر أهل الكتاب
الله سبحانه وتعالى يقول: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ {98}) آل عمران .
تفسيرابن كثير
( قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون ( 98 ) قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ( 99 ) )
هذا تعنيف من الله تعالى لكفرة أهل الكتاب ، على عنادهم للحق ، وكفرهم بآيات الله ، وصدهم عن سبيله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله ، بما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين ، والسادة المرسلين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وما بشروا به ونوهوا ، من ذكر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الأمي الهاشمي العربي المكي ، سيد ولد آدم ، وخاتم الأنبياء ، ورسول رب الأرض والسماء . وقد توعدهم [ الله ] تعالى على ذلك بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ، ومقابلتهم الرسول المبشر بالتكذيب والجحود والعناد ، وأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون ، أي : وسيجزيهم على ذلك يوم لا ينفعهم مال ولا بنون .
[ ص: 86 ]
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله تعالى ( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون ( 98 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الديانة بما أنزل الله عز وجل من كتبه ، ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد نبوته : " لم تكفرون بآيات الله " ، يقول : لم تجحدون حجج الله التي آتاها محمدا في كتبكم وغيرها ، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوته وحجته . وأنتم تعلمون : يقول : لم تجحدون ذلك من أمره ، وأنتم تعلمون صدقه ؟ فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم متعمدون الكفر بالله وبرسوله على علم منهم ، ومعرفة من كفرهم ، وقد :
حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله " ، أما "آيات الله " ، فمحمد صلى الله عليه وسلم .
- حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون " ، قال : هم اليهود والنصارى .
3 تفسير التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور
التحليل الموضوعي
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون .
ابتداء كلام رجع به إلى مجادلة أهل الكتاب وموعظتهم فهو مرتبط بقوله تعالى قل صدق الله الآية .
أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالصدع بالإنكار على أهل الكتاب ، بعد أن مهد بين يدي ذلك دلائل صحة هذا الدين ولذلك افتتح بفعل ( قل ) اهتماما بالمقول ، وافتتح المقول بنداء يا أهل الكتاب تسجيلا عليهم . والمراد بآيات الله : إما القرآن ، وإما دلائل صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - . والكفر على هذين الوجهين بمعناه الشرعي واضح ، وإما آيات فضيلة المسجد الحرام على غيره ، والكفر على هذا الوجه بمعناه اللغوي . والاستفهام إنكار .
وجملة والله شهيد على ما تعملون في موضع الحال لأن أهل الكتاب يوقنون بعموم علم الله تعالى ، وأنه لا يخفى عليه شيء فجحدهم لآياته مع ذلك اليقين أشد إنكارا ، ولذلك لم يصح جعل والله شهيد مجرد خبر إلا إذا نزلوا منزلة الجاهل .
وقوله قل يا أهل الكتاب لم تصدون توبيخ ثان وإنكار على مجادلتهم لإضلالهم المؤمنين بعد أن أنكر عليهم ضلالهم في نفوسهم ، وفصل بلا عطف للدلالة على استقلاله بالقصد ، ولو عطف لصح العطف .
[ ص: 26 ] والصد يستعمل قاصرا ومتعديا : يقال صده عن كذا فصد عنه . وقاصره بمعنى الإعراض . فمتعديه بمعنى جعل المصدود معرضا أي صرفه ، ويقال : أصده عن كذا ، وهو ظاهر .
وسبيل الله مجاز في الأقوال والأدلة الموصلة إلى الدين الحق . والمراد بالصد عن سبيل الله إما محاولة إرجاع المؤمنين إلى الكفر بإلقاء التشكيك عليهم . وهذا المعنى يلاقي معنى الكفر في قوله لم تكفرون بآيات الله على وجهيه الراجعين للمعنى الشرعي . وإما صد الناس عن الحج أي صد أتباعهم عن حج الكعبة ، وترغيبهم عن حج بيت المقدس ، بتفضيله على الكعبة ، وهذا يلاقي الكفر بمعناه اللغوي المتقدم ، ويجوز أن يكون إشارة إلى إنكارهم القبلة في قولهم : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها لأن المقصود به صد المؤمنين عن استقبال الكعبة .
وقوله تبغونها عوجا أي تبغون السبيل فأنث ضميره لأن السبيل يذكر ويؤنث قال تعالى : قل هذه سبيلي . والبغي الطلب أي تطلبون . والعوج - بكسر العين وفتح الواو - ضد الاستقامة وهو اسم مصدر عوج كفرح ، ومصدره العوج كالفرح . وقد خص الاستعمال غالبا المصدر بالاعوجاج في الأشياء المحسوسة ، كالحائط والقناة . وخص إطلاق اسم المصدر بالاعوجاج الذي لا يشاهد كاعوجاج الأرض والسطح ، وبالمعنويات كالدين .
ومعنى تبغونها عوجا يجوز أن يكون عوجا باقيا على معنى المصدرية ، فيكون عوجا مفعول تبغونها ، ويكون ضمير النصب في تبغونها على نزع الخافض كما قالوا : شكرتك وبعتك كذا : أي شكرت لك وبعت لك ، والتقدير : وتبغون لها عوجا ، أي تتطلبون نسبة العوج إليها ، وتصورونها باطلة زائلة . ويجوز أن يكون عوجا وصفا للسبيل على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة ، أي تبغونها عوجاء شديدة العوج فيكون ضمير النصب في تبغونها مفعول تبغون ، ويكون عوجا حالا من ضمير النصب أي ترومونها معوجة أي تبغون سبيلا معوجة وهي سبيل الشرك .
[ ص: 27 ] والمعنى : تصدون عن السبيل المستقيم وتريدون السبيل المعوج ففي ضمير تبغونها استخدام لأن سبيل الله المصدود عنها هي الإسلام ، والسبيل التي يريدونها هي ما هم عليه من الدين بعد نسخه وتحريفه .
وقوله وأنتم شهداء حال أيضا توازن الحال في قوله قبلها والله شهيد على ما تعملون ومعناه وأنتم عالمون أنها سبيل الله . وقد أحالهم في هذا الكلام على ما في ضمائرهم مما لا يعلمه إلا الله لأن ذلك هو المقصود من وخز قلوبهم ، وانثنائهم باللائمة على أنفسهم ، ولذلك عقبه بقوله وما الله بغافل عما تعملون وهو وعيد وتهديد وتذكير لأنهم يعلمون أن الله يعلم ما تخفي الصدور وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة والله شهيد على ما تعملون إلا أن هذا أغلظ في التوبيخ لما فيه من إبطال اعتقاد غفلته سبحانه ، لأن حالهم كانت بمنزلة حال من يعتقد ذلك .
تفسير السعدى
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون
(98 - 99) لما أقام فيما تقدم الحجج على أهل الكتاب، مع أنهم قبل ذلك [ ص: 231 ] يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يعرفون أبناءهم- وبخ المعاندين منهم بكفرهم بآيات الله وصدهم الخلق عن سبيل الله، لأن عوامهم تبع لعلمائهم، والله تعالى يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
ويقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ {70} ) آل عمران
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( 70 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " يا أهل الكتاب " من اليهود والنصارى " لم تكفرون " يقول : لم تجحدون " بآيات الله " يعني : بما في كتاب الله الذي أنزله إليكم على ألسن أنبيائكم ، من آيه وأدلته " وأنتم تشهدون " أنه حق من عند ربكم .
وإنما هذا من الله - عز وجل - ، توبيخ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وجحودهم نبوته ، وهم يجدونه في كتبهم ، مع شهادتهم أن ما في كتبهم حق ، وأنه من عند الله ، كما : -
7219 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " يقول : تشهدون [ ص: 503 ] أن نعت محمد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابكم ، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل : " النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته " .
7220 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " يقول : تشهدون أن نعت محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل : " النبي الأمي " .
7221 - حدثني محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " " آيات الله " محمدا ، وأما " تشهدون " فيشهدون أنه الحق ، يجدونه مكتوبا عندهم .
7222 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " أن الدين عند الله الإسلام ، ليس لله دين غيره .
2تفسير ابن كثير
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 69 ) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( 70 ) )
( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ( 71 ) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ( 72 ) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( 73 ) يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 74 ) )
يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين وبغيهم إياهم الإضلال ، وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم ، وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم .
ثم قال تعالى منكرا عليهم : ( ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ) أي : تعلمون صدقها وتتحققون حقها ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) أي : تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه .
( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره [ لعلهم يرجعون ] ) هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم ، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس : إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين ، ولهذا قالوا : ( لعلهم يرجعون ) .
قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى إخبارا عن اليهود بهذه الآية : يعني يهود صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وكفروا آخر النهار ، مكرا منهم ، ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : قالت طائفة من أهل الكتاب : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم ، لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا . [ وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك ] .
وقوله : ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) أي : لا تطمئنوا وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين ، فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم ، قال الله تعالى : ( قل إن الهدى هدى الله ) [ ص: 60 ] أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان ، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات ، والدلائل القاطعات ، والحجج الواضحات ، وإن كتمتم - أيها اليهود - ما بأيديكم من صفة محمد في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين .
وقوله ( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ) يقولون : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين ، فيتعلموه منكم ، ويساووكم فيه ، ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به ، أو يحاجوكم به عند الله ، أي : يتخذوه حجة عليكم مما بأيديكم ، فتقوم به عليكم الدلالة وتتركب الحجة في الدنيا والآخرة . قال الله تعالى : ( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ) أي الأمور كلها تحت تصريفه ، وهو المعطي المانع ، يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام ، ويضل من يشاء ويعمي بصره وبصيرته ، ويختم على سمعه وقلبه ، ويجعل على بصره غشاوة ، وله الحجة والحكمة .
( والله واسع عليم . يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) أي : اختصكم - أيها المؤمنون - من الفضل بما لا يحد ولا يوصف ، بما شرف به نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وهداكم به لأحمد الشرائع .
3 تفسير البغوي
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 69 ) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( 70 ) )
( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ( 71 ) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ( 72 ) )
قوله عز وجل ( ودت طائفة من أهل الكتاب ) نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم ، فنزلت ( ودت طائفة ) [ تمنت جماعة من أهل الكتاب ] يعني اليهود ( لو يضلونكم ) عن دينكم ويردونكم إلى الكفر ( وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون )
( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ) يعني القرآن وبيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم ( وأنتم تشهدون ) أن نعته في التوراة والإنجيل مذكور
( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ) تخلطون الإسلام باليهودية والنصرانية ، وقيل : لم تخلطون الإيمان بعيسى عليه السلام وهو الحق بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الباطل؟ وقيل : التوراة التي أنزلت على موسى بالباطل الذي حرفتموه وكتبتموه بأيديكم ( وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) أن محمدا صلى الله عليه وسلم ودينه حق
قوله تعالى ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا ) الآية قال الحسن والسدي : تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عيينة وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون [ ص: 54 ] الاعتقاد ثم اكفروا آخر النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك ، وظهر لنا كذبه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم واتهموه وقالوا : إنهم أهل الكتاب وهم أعلم منا به فيرجعون عن دينهم .
وقال مجاهد ومقاتل والكلبي هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود ، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه : آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا ، فأطلع الله تعالى رسوله على سرهم وأنزل ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ) أوله سمي وجها لأنه أحسنه وأول ما يواجه الناظر فيراه ( واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) فيشكون ويرجعون عن دينهم
4- تفسير التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور
يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون .
التفات إلى خطاب اليهود . والاستفهام إنكاري . والآيات : المعجزات ، ولذلك قال وأنتم تشهدون . وإعادة ندائهم بقوله : يا أهل الكتاب ثانية لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم . ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة ، حتى ارتفعت الثقة بجميعه . وكتمان الحق يحتمل أن يراد به كتمانهم تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يراد به كتمانهم ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم ، وهم يعلمونها ولا يعملون بها .
5-تفسير فتح القدير الشوكانى
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم
[ ص: 225 ] الطائفة من أهل الكتاب هم يهود بني النضير وقريظة وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم وسيأتي ، وقيل : هم جميع أهل الكتاب ، فتكون من لبيان الجنس .
وقوله : وما يضلون إلا أنفسهم جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان ، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه . والمراد بآيات الله ما في كتبهم من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وأنتم تشهدون ما في كتبكم من ذلك ، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرون بنبوتهم ، أو المراد كتم كل الآيات عنادا وأنتم تعلمون أنها حق .
ولبس الحق بالباطل خلطه بما يتعمدونه من التحريف وأنتم تعلمون جملة حالية . قوله : وقالت طائفة من أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأشرافهم ، قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة . ووجه النهار : أوله ، وسمي وجها لأنه أحسنه قال :
وتضيء في وجه النهار منيرة كجمانة البحري سل نظامها
وهو منصوب على الظرف ، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين ، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم ، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم واعتراه الشك وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ومكن أقدامهم ، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله ، ولا تحركهم ريح المعاندين .
قوله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض ; أي : قال ذلك الرؤساء للسفلة لا تصدقوا تصديقا صحيحا إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها ، وأما غيرهم ممن قد أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعا وجه النهار واكفروا آخره ليفتتنوا ، ويكون قوله : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على هذا متعلقا بمحذوف ; أي : فعلتم ذلك لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم : يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم .
وقوله : أو يحاجوكم معطوف على أن يؤتى ; أي : لا يؤمنوا إيمانا صحيحا وتقروا بما في صدوركم إقرارا صادقا لغير من تبع دينكم ، فعلتم ذلك ودبرتموه أن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق . وقوله : إن الهدى هدى الله جملة اعتراضية .
وقال الأخفش : المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم ، فذهب إلى أنه معطوف ، وقيل : المراد لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم ; أي : لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه ; لأن إسلام من كان منهم هو الذي قتلهم غيظا وأماتهم حسرة وأسفا ، ويكون قوله : أن يؤتى على هذا متعلقا بمحذوف كالأول ، وقيل : إن قوله : أن يؤتى متعلق بقوله : لا تؤمنوا أي لا تظهروا إيمانكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم ، وقيل : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوه ، فتكون على هذا أن وما بعدها في محل رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره تصدقون بذلك ، ويجوز أن تكون في محل نصب على إضمار فعل تقديره تقرون أن يؤتى ، وقد قرأ آن يؤتى بالمد ابن كثير وابن محيصن وحميد . وقال الخليل : أن في موضع خفض والخافض محذوف .
وقال ابن جريج : المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى ، وقيل المعنى : لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا من تبع دينكم ، لئلا يكون ذلك سببا لإيمان غيرهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم . وقال الفراء : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله : إلا لمن تبع دينكم ثم قال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم : قل إن الهدى هدى الله أي : إن البيان الحق بيان الله بين أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على تقدير لا كقوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا [ النساء : 176 ] أي : لئلا تضلوا ، وأو في قوله : أو يحاجوكم بمعنى حتى ، وكذلك قال الكسائي ، وهي عند الأخفش عاطفة كما تقدم .
وقيل : إن هدى الله بدل من الهدى ، وأن يؤتى خبر إن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . وقد قيل : إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالا وذلك صحيح .
وقرأ الحسن يؤتي بكسر التاء الفوقية . وقرأ سعيد بن جبير إن يؤتى بكسر الهمزة على أنها النافية .
وقوله : يختص برحمته من يشاء قيل : هي النبوة ، وقيل : أعم منها ، وهو رد عليهم ودفع لما قالوه ودبروه . وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سفيان قال : كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى ، ويدفع هذا أن كثيرا من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصح حملها على النصارى ألبتة ، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها ، فإن الطائفة التي ودت إضلال المسلمين وكذلك الطائفة القائلة آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار هي من اليهود خاصة .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون قال : تشهدون أن نعت نبي الله محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع مثله .
وأخرجا أيضا عن السدي نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج وأنتم تشهدون على أن الدين عند الله الإسلام ليس لله دين غيره . وأخرجا عن الربيع في قوله : لم تلبسون الحق بالباطل يقول : لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام وتكتمون الحق يقول : تكتمون شأن محمد وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله . [ ص: 226 ] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم ، فأنزل الله فيهم ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل إلى قوله : والله واسع عليم وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله : وقالت طائفة الآية ، قال : كانوا يكونون معهم أول النهار ويجالسونهم ويكلمونهم ، فإذا أمسوا وحضرت الصلاة كفروا به وتركوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قال : هذا قول بعضهم لبعض .
وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله . وأخرج أيضا عن السدي نحوه .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حسدا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم ، وإرادة أن يتابعوا على دينهم . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك وسعيد بن جبير أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قال : أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد أو يحاجوكم عند ربكم يقول اليهود : فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة حتى أنزل علينا المن والسلوى ، فإن الذي أعطيتكم أفضل فقولوا : قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يقول : لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا كنبيكم حسدتموه على ذلك قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .
وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله . وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يقول : هذا الأمر الذي أنعم الله عليه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قال : قال بعضهم لبعض : لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ليحاجوكم قال : ليخاصموكم به عند ربكم فتكون لهم حجة عليكم قل إن الفضل بيد الله قال : الإسلام يختص برحمته من يشاء قال : القرآن والإسلام .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد يختص برحمته من يشاء قال : النبوة . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : رحمته الإسلام يختص بها من يشاء .
6-تفسير المواردى
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم
قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة بها ، وهذا قول قتادة ، والربيع ، والسدي . والثاني: وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها. والثالث: وأنتم تشهدون بما عليكم فيه الحجة. قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل فيه تأويلان: [ ص: 401 ]
أحدهما: تحريف التوراة والإنجيل ، وهذا قول الحسن ، وابن زيد . والثاني: الدعاء إلى إظهار الإسلام في أول النهار والرجوع عنه في آخره قصدا لتشكيك الناس فيه ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة . والثالث: الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. وتكتمون الحق يعني ما وجدوه عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، والبشارة به في كتبهم عنادا من علمائهم. وأنتم تعلمون يعني الحق بما عرفتموه من كتبكم. قوله تعالى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم فيه قولان: أحدهما: معناه لا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم. والثاني: لا تعترفوا بالحق إلا لمن تبع دينكم. واختلف في تأويل ذلك على قولين: أحدهما: أنهم كافة اليهود ، قال ذلك بعضهم لبعض ، وهذا قول السدي ، وابن زيد . والثاني: أنهم يهود خيبر قالوا ذلك ليهود المدينة ، وهذا قول الحسن . واختلف في سبب نهيهم أن يؤمنوا إلا لمن تبع دينهم على قولين: أحدهما: أنهم نهوا عن ذلك لئلا يكون طريقا لعبدة الأوثان إلى تصديقه ، وهذا قول الزجاج. والثاني: أنهم نهوا عن ذلك لئلا يعترفوا به فيلزمهم العمل بدينه لإقرارهم بصحته. قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم فيه قولان: أحدهما: أن في الكلام حذفا ، وتقديره: قل إن الهدى هدى الله ألا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المسلمون ، ثم حذف (لا) من الكلام لدليل الخطاب [ ص: 402 ]
عليها مثل قوله تعالى: يبين الله لكم أن تضلوا [النساء: 176] أي لا تضلوا ، وهذا معنى قول السدي ، وابن جريج . والثاني: أن معنى الكلام: قل إن الهدى هدى الله فلا تجحدوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. أو يحاجوكم عند ربكم فيه قولان: أحدهما: يعني ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنه لا حجة لهم ، وهذا قول الحسن ، وقتادة . والثاني: إن معناه حتى يحاجوكم عند ربكم ، على طريق التبعيد ، كما يقال: لا تلقاه أو تقوم الساعة ، وهذا قول الكسائي ، والفراء. قوله تعالى: يختص برحمته من يشاء فيه قولان: أحدهما: أنها النبوة ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، والربيع. والثاني: القرآن والإسلام ، وهذا قول ابن جريج. واختلفوا في النبوة هل تكون جزاء على عمل؟ على قولين: أحدهما: أنها جزاء عن استحقاق. والثاني: أنها تفضل لأنه قال: يختص برحمته من يشاء
7- تفسير النسفي
يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون [ 70 ] أي لم تكفرون بما يتلى عليكم من آيات القرآن وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل، وقيل: المراد: لم تكفرون بما في كتبكم من الآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون الحجج الدالة على ذلك، أو: لم تكفرون بما في كتبكم من أن الدين عند الله الإسلام وأنتم تشاهدون ذلك، أو: لم تكفرون بالحجج الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون أن ظهور المعجزة يدل على صدق مدعي الرسالة أو أنتم تشهدون إذا خلوتم بصحة دين الإسلام، أو: لم تكفرون بآيات الله جميعا وأنتم تعلمون حقيتها بلا شبهة بمنزلة علم المشاهدة.
8- تفسير
.
ويقول: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ {65})المائدة.
هذا وقد أجمع المسلمون على تسمية اليهود والنصارى كفارا:
قال القاضي عياض في الشفا: بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك .
وقال بن حزم في مراتب الإجماع: واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارا .
وقال أيضاً: الكفر والشرك سواء، وكل كافر فهو مشرك, وكل مشرك فهو كافر, وهو قول الشافعي وغيره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى:" قد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن بها فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة ".
وقال: " نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة والمقرين بالجزية على كفرهم ".
وقال: "إن اليهود والنصارى كفار كفراً معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام" . وقال أيضاً: "... ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهار ما أظهره من خلاف ذلك ".
ومن لم يقطع ويقتنع بكفر الكافر في دين الله فما صدَّق بما أخبر الله تعالى به من كفرهم .
ومن لم يعتقد بأن دين الإسلام ناسخ لما قبله من الأديان, وأن على كل أحد من الناس أن يتبع هذا الدين كائناً ما كان دينه قبل ذلك, فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم, لأن رسالته ناسخة لما قبلها من الأديان، وأن على كل أحد من الناس أن يتبع هذا الدين القويم كائناً ما كان دينه قبل ذلك, لقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ... {158} ) الأعراف .
فاليهود والنصارى كفار مشركون لقوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {30} اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {31} ) التوبة .
فمن قال إن اليهود والنصارى ليسوا كفارا فهو مكذب لقوله تعالى: (مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ..{46}) النساء.
ومكذب لقوله: ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا {155} وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا {156} وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ...{157}) النساء.
ومكذب لقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ .. {17} ) المائدة .
ومكذب لقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73} ) المائدة .
فاليهود والنصارى لا يؤمنون بنبينا صلى الله عليه وسلم, ولا يتبعونه, مخالفين قوله تعالى: ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ{1}رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً{2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ{3}وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ{4}) البينة.
ولا يؤمنون بالأنبياء والرسل السابقين وصدق الله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا {150} أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا{151} ) النساء
قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}
.تفسير الاية
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ( 1 ) رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ( 2 ) فيها كتب قيمة ( 3 ) وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( 4 ) ) .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل ، والمشركون من عبدة الأوثان ( منفكين ) يقول : منتهين حتى يأتيهم هذا القرآن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( منفكين ) قال : لم يكونوا لينتهوا حتى يتبين لهم الحق .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله ( منفكين ) قال : منتهين عما هم فيه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( منفكين حتى تأتيهم البينة ) أي : هذا القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : [ ص: 540 ] ( والمشركين منفكين ) قال : لم يكونوا منتهين حتى يأتيهم ; ذلك المنفك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون ، لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم ، حتى بعث ، فلما بعث تفرقوا فيه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : معنى ذلك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد ، حتى تأتيهم البينة ، وهي إرسال الله إياه رسولا إلى خلقه ، رسول من الله . وقوله : ( منفكين ) في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر ، ولذلك صلح بغير خبر ، ولو كان بمعنى ما زال ، احتاج إلى خبر يكون تماما له ، واستؤنف قوله ( رسول من الله ) هي نكرة على البينة ، وهي معرفة ، كما قيل : ( ذو العرش المجيد فعال ) فقال : حتى يأتيهم بيان أمر محمد أنه رسول الله ، ببعثة الله إياه إليهم ، ثم ترجم عن البينة ، فقال : تلك البينة
( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) يقول : يقرأ صحفا مطهرة من الباطل
( فيها كتب قيمة ) يقول : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ، ليس فيها خطأ ؛ لأنها من عند الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .
وقوله : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) يقول : وما تفرق اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذبوا به ، إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء اليهود والنصارى البينة ، يعني : أن بيان أمر محمد أنه رسول بإرسال الله إياه إلى خلقه ، يقول : فلما بعثه الله تفرقوا فيه ، فكذب به بعضهم ، وآمن بعضهم ، وقد كانوا قبل أن يبعث غير مفترقين فيه أنه نبي .
2- تفسير ابن كثير
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ( 1 ) رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ( 2 ) فيها كتب قيمة ( 3 ) وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( 4 ) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( 5 ) )
أما أهل الكتاب فهم : اليهود والنصارى والمشركون ؛ عبدة الأوثان والنيران ، من العرب ومن العجم . وقال مجاهد : لم يكونوا ( منفكين ) يعني : منتهين حتى يتبين لهم الحق . وكذا قال قتادة .
( حتى تأتيهم البينة ) أي : هذا القرآن ; ولهذا قال تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) ثم فسر البينة بقوله : ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، وما يتلوه من القرآن العظيم ، الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى ، في صحف مطهرة كقوله : ( في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ) [ عبس : 13 - 16 ] .
وقوله : ( فيها كتب قيمة ) قال ابن جرير : أي في الصحف المطهرة كتب من الله ، قيمة : عادلة مستقيمة ، ليس فيها خطأ ; لأنها من عند الله عز وجل .
قال قتادة : ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .
وقال ابن زيد : ( فيها كتب قيمة ) مستقيمة معتدلة .
وقوله : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) كقوله : [ ص: 457 ] ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) [ آل عمران : 105 ] يعني بذلك أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا ، بعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم ، واختلفوا اختلافا كثيرا ، كما جاء في الحديث المروي من طرق : " إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة " . قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .
وقوله : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) كقوله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] ; ولهذا قال : حنفاء ، أي : متحنفين عن الشرك إلى التوحيد . كقوله : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل : 36 ] وقد تقدم تقرير الحنيف في سورة " الأنعام " بما أغنى عن إعادته هاهنا .
( ويقيموا الصلاة ) وهي أشرف عبادات البدن ( ويؤتوا الزكاة ) وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج . ( وذلك دين القيمة ) أي : الملة القائمة العادلة ، أو : الأمة المستقيمة المعتدلة .
وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان ; ولهذا قال : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )
3- تفسير القرطبي
تفسير سورة ( لم يكن )
وهي مكية في قول يحيى بن سلام .
ومدنية في قول ابن عباس والجمهور . وهي تسع آيات
وقد جاء في فضلها حديث لا يصح ، رويناه عن محمد بن محمد بن عبد الله الحضرمي قال : قال لي أبو عبد الرحمن بن نمير : اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب ، فاكتب عنه فإنه قد كتب ، فذهب إليه ، فقال : حدثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو يعلم الناس ما في ( لم يكن ) الذين كفروا من أهل الكتاب ، لعطلوا الأهل والمال ، فتعلموها " فقال رجل من خزاعة : وما فيها من الأجر يا رسول الله ؟ قال : " لا يقرؤها منافق أبدا ، ولا عبد في قلبه شك في الله . والله إن الملائكة المقربين يقرءونها منذ خلق الله السماوات والأرض ما يفترون من قراءتها . وما من عبد يقرؤها إلا بعث الله إليه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ، ويدعون له بالمغفرة والرحمة " .
قال الحضرمي : فجئت إلى أبي عبد الرحمن بن نمير ، فألقيت هذا الحديث عليه ، فقال : هذا قد كفانا مئونته ، فلا تعد إليه . قال ابن العربي : " روى إسحاق بن بشر الكاهلي عن مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب : عن أبي الدرداء ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لو يعلم الناس ما في ( لم يكن ) الذين كفروا لعطلوا الأهل والمال ولتعلموها " . حديث باطل ; وإنما الحديث الصحيح ما روي عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب : " إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا قال : وسماني لك ! قال " نعم " فبكى .
قلت : خرجه البخاري ومسلم . وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم . قال بعضهم : إنما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي ، ليعلم الناس التواضع ; لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة . وقيل : لأن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; فأراد بقراءته عليه ، أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه ، ويعلم غيره . وفيه فضيلة عظيمة لأبي ; إذ أمر الله رسوله أن يقرأ عليه . قال أبو بكر الأنباري : وحدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد ، قال حدثنا علي بن الجعد ، قال حدثنا عكرمة عن عاصم عن زر بن حبيش قال : في قراءة أبي بن كعب : ابن آدم لو أعطي واديا من مال لالتمس ثانيا ولو أعطي واديين من مال لالتمس ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب . قال عكرمة . قرأ علي عاصم لم يكن ثلاثين آية ، هذا فيها . قال أبو بكر : هذا باطل عند أهل العلم ; لأن قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبي بن كعب ، لا يقرأ فيهما هذا المذكور في لم يكن مما هو معروف في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على أنه من كلام الرسول - عليه السلام - ، لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن . وما رواه اثنان معهما الإجماع أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة .
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة
قوله تعالى : لم يكن الذين كفروا كذا قراءة العامة ، وخط المصحف . وقرأ ابن مسعود لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين وهذه قراءة على التفسير . قال ابن العربي : " وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة ; فقد قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية الصحيح ( فطلقوهن لقبل عدتهن ) وهو تفسير ; فإن التلاوة : هو ما كان في خط المصحف " .
قوله تعالى : من أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى والمشركين في موضع جر عطفا على أهل الكتاب . قال ابن عباس أهل الكتاب : اليهود الذين كانوا بيثرب ، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع . والمشركون : الذين كانوا بمكة وحولها ، والمدينة والذين حولها ; وهم مشركو قريش .
منفكين أي منتهين عن كفرهم ، مائلين عنه .
حتى تأتيهم أي أتتهم البينة ; أي محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا ، حتى تأتيهم البينة . فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء . وقيل : منفكين [ ص: 125 ] زائلين ; أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول . والعرب تقول : ما انفككت أفعل كذا : أي ما زلت . وما انفك فلان قائما ، أي ما زال قائما . وأصل الفك : الفتح ; ومنه فك الكتاب ، وفك الخلخال ، وفك السالم . قال طرفة :
4-( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( 4 ) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( 5 ) )
ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال : [ ص: 496 ] ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ) في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ( إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) أي البيان في كتبهم أنه نبي مرسل .
قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله ، فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا ، فآمن به بعضهم ، وكفر آخرون .
وقال بعض أئمة اللغة : معنى قوله " منفكين " : هالكين ، من قولهم : انفك [ صلا ] المرأة عند الولادة ، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك .
ومعنى الآية : لم يكونوا هالكين معذبين إلا من بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ، والأول أصح . ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال : ( وما أمروا ) يعني هؤلاء الكفار ، ( إلا ليعبدوا الله ) يعني إلا أن يعبدوا الله ، ( مخلصين له الدين ) قال ابن عباس : ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا [ بالإخلاص في ] العبادة لله موحدين ، ( حنفاء ) مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، ( ويقيموا الصلاة ) المكتوبة في أوقاتها ، ( ويؤتوا الزكاة ) عند محلها ، ( وذلك ) الذي أمروا به ، ( دين القيمة ) أي الملة والشريعة المستقيمة . أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته ، لاختلاف اللفظين ، وأنث " القيمة " ردا بها إلى الملة .
وقيل : الهاء فيه للمبالغة ، وقيل : " القيمة " هي الكتب التي جرى ذكرها ، أي وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به ، كما قال : وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ( البقرة 213 ) .
قال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله : " وذلك دين القيمة " ؟ فقال : " القيمة " : [ ص: 497 ] جمع القيم ، والقيم والقائم واحد ، ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لله بالتوحيد .
5- تفسير أضواء البيان
سورة البينة
قال الألوسي : وتسمى سورة القيامة ، وسورة البلد ، وسورة المنفكين ، وسورة البرية ، وسورة لم يكن .
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
ذكر هنا الذين كفروا ، ثم جاءت من ، وجاء بعدها أهل الكتاب والمشركين ، مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلا من أهل الكتاب والمشركين ، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب لوجود العطف ، وأن أهل الكتاب ليسوا من المشركين .
وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير ، واتفقوا على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وأن المشركين هم عبدة الأوثان ، والكفر يجمع القسمين .
وأهل الكتاب مختص باليهود والنصارى ، ولكن الخلاف هل الشرك يجمعهما أيضا أم لا ؟
فبين الفريقين عموم وخصوص ، عموم في الكفر وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى ، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان .
ولكن جاءت آيات تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضا ، كما في قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [ 9 \ 30 - 31 ] .
[ ص: 40 ] فجعل مقالة كل من اليهود والنصارى إشراكا .
وجاء عن عبد الله بن عمر منع نكاح الكتابية وقال : " وهل أكبر إشراكا من قولها : اتخذ الله ولدا [ 2 \ 116 ] ، فهو وإن كان مخالفا للجمهور في منع الزواج من الكتابيات ، إلا أنه اعتبرهن مشركات .
ولهذا الخلاف والاحتمال وقع النزاع في مسمى الشرك ، هل يشمل أهل الكتاب أم لا ؟ مع أننا وجدنا فرقا في الشرع في معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين ، فأحل ذبائح أهل الكتاب ولم يحلها من المشركين ، وأحل نكاح الكتابيات ولم يحله من المشركات ، كما قال تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] .
وقوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ 60 \ 10 ] .
وقال : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] ، بين ما في حق الكتابيات قال : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن [ 5 \ 5 ] ، فكان بينهما مغايرة في الحكم .
وقد جمع والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه بين تلك النصوص في دفع إيهام الاضطراب عند قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله المتقدم ذكرها جمعا مفصلا مفاده أن الشرك الأكبر المخرج من الملة أنواع ، وأهل الكتاب متصفون ببعض دون بعض ، إلى آخر ما أورده رحمة الله تعالى علينا وعليه .
ولعل في نفس آية وقالت اليهود عزير ابن الله ، فيها إشارة إلى ما ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه من وجهين :
الأول : قوله تعالى : يضاهئون قول الذين كفروا أي يشابهونهم في مقالتهم ، وهذا القدر اتصف به المشركون من أنواع الشرك .
الثاني : تذييل الآية بصيغة المضارع عما يشركون بينما وصف عبدة الأوثان في سورة البينة بالاسم " والمشركين " .
[ ص: 41 ] ومعلوم أن صيغة الفعل تدل على التجدد والحدوث ، وصيغة الاسم تدل على الدوام والثبوت ، فمشركو مكة وغيرهم دائمون على الإشراك وعبادة الأصنام ، وأهل الكتاب يقع منهم حينا وحينا .
وقد أخذ بعض العلماء : أن الكفر ملة واحدة ، فورث الجميع من بعض ، ومنع الآخرون على أساس المغايرة والعلم عند الله تعالى .
6- تفسيرفتح القدير
وهي مدنية في قول الجمهور ، وقيل مكية .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة لم يكن بالمدينة .
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة لم يكن بمكة .
وأخرج أبو نعيم في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم المزني ، حدثني فضل ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يستمع قراءة لم يكن الذين كفروا فيقول : أبشر عبدي وعزتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى قال ابن كثير : حديث غريب جدا .
وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني ، أو المدني بنحوه .
وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا قال : وسماني لك ؟ قال : نعم . فبكى .
وأخرج أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني ، وابن مردويه عن أبي حية البدري قال : لما نزلت لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة ، فقال أبي : وقد ذكرت ثم يا رسول الله ؟ قال : نعم ، فبكى .
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه
المراد بـ الذين كفروا من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، و المراد بـ المشركين مشركو العرب ، وهم عبدة الأوثان ، و منفكين خبر كان ، يقال فككت الشيء فانفك : أي انفصل ، والمعنى : أنهم لم يكونوا مفارقين لكفرهم ولا منتهين عنه حتى تأتيهم البينة وقيل الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية : أي لم يكونوا يبلغون نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة ، وقيل منفكين : زائلين : أي لم تكن مدتهم لتزول حتى تأتيهم البينة ، يقال ما انفك فلان قائما : أي ما زال قائما ، وأصل الفك الفتح ، ومنه فك الخلخال .
وقيل منفكين بارحين : أي لم يكونوا ليبرحوا أو يفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة .
وقال ابن كيسان : المعنى [ ص: 1643 ] لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يبعث ، فلما بعث حسدوه وجحدوه ، وهو كقوله : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [ البقرة : 89 ] وعلى هذا فيكون قوله : والمشركين أنهم ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث ، فإنهم كانوا يسمونه الأمين ، فلما بعث عادوه وأساءوا القول فيه .
وقيل : منفكين هالكين ، من قولهم : انفك صلبه : أي انفصل فلم يلتئم فيهلك ، والمعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم .
وقيل إن المشركين هم أهل الكتاب ، فيكون وصفا لهم لأنهم قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله .
قال الواحدي : ومعنى الآية إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان ، وهذا بيان عن النعمة والإنقاذ به من الجهل والضلالة والآية في من آمن من الفريقين .
قال : وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء ، وسلكوا في تفسيرها طرقا لا تفضي بهم إلى الصواب .
والوجه ما أخبرتك فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال .
قال : ويدل على أن البينة محمد صلى الله عليه وسلم أنه فسرها وأبدل منها فقال : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة يعني ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها ، وهو القرآن ، ويدل على ذلك أنه كان يتلو عن ظهر قلبه ، لا عن كتاب . انتهى كلامه .
وقيل إن الآية حكاية لما كان يقوله أهل الكتاب والمشركون إنهم لا يفارقون دينهم حتى يبعث النبي الموعود به ، فلما بعث تفرقوا كما حكاه الله عنهم في هذه السورة .
والبينة على ما قاله الجمهور هو محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه سراجا منيرا .
وقد فسر الله سبحانه هذه البينة المجملة بقوله : رسول من الله فاتضح الأمر وتبين أنه المراد بالبينة .
وقال قتادة ، وابن زيد : البينة هي القرآن كقوله : أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى [ طه : 133 ] وقال أبو مسلم : المراد بالبينة مطلق الرسل ، والمعنى : حتى تأتيهم رسل من الله ، وهم الملائكة يتلون عليهم صحفا مطهرة ، والأول أولى .
قرأ الجمهور لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وقرأ ابن مسعود " لم يكن المشركون وأهل الكتاب " قال ابن العربي : وهي قراءة في معرض البيان ، لا في معرض التلاوة .
وقرأ الأعمش ، والنخعي : " والمشركون " بالرفع عطفا على الموصول .
وقرأ أبي " فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون " .
قرأ الجمهور رسول من الله برفع " رسول " على أنه بدل كل من كل مبالغة ، أو بدل اشتمال .
قال الزجاج : رسول رفع على البدل من البينة .
وقال الفراء : رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر : أي هي رسول أو هو رسول .
وقرأ أبي ، وابن مسعود " رسولا " بالنصب على القطع ، وقوله : من الله متعلق بمحذوف هو صفة لرسول : أي كائن من الله ، ويجوز تعلقه بنفس رسول ، وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من صحف ، والتقدير : يتلو صحفا مطهرة منزلة من الله ، وقوله : يتلو صحفا مطهرة يجوز أن تكون صفة أخرى لرسول ، أو حالا من متعلق الجار والمجرور قبله .
ومعنى يتلو : يقرأ ، يقال تلا يتلو تلاوة ، والصحف جمع صحيفة ، وهي ظرف المكتوب ، ومعنى مطهرة : أنها منزهة من الزور والضلال .
قال قتادة : مطهرة من الباطل ، وقيل مطهرة من الكذب والشبهات والكفر ، والمعنى واحد ، والمعنى : أنه يقرأ ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها لأنه كان صلى الله عليه وسلم يتلو عن ظهر قلبه ، لا عن كتاب كما تقدم .
وقوله : فيها كتب قيمة صفة ل صحفا أو حال من ضميرها ، والمراد الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، والقيمة المستقيمة المستوية المحكمة ، من قول العرب : قام الشيء : إذا استوى وصح .
وقال صاحب النظم : الكتب بمعنى الحكم كقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ المجادلة : 21 ] أي حكم ، وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف : لأقضين بينكما بكتاب الله ثم قضى بالرجم ، وليس الرجم في كتاب الله ، فالمعنى : لأقضين بينكما بحكم الله ، وبهذا يندفع ما قيل إن الصحف هي الكتب ، فكيف قال صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وقال الحسن : يعني بالصحف المطهرة التي في السماء ، يعني في اللوح المحفوظ كما في قوله : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [ البروج : 22 ، 21 ] وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة هذه الجملة مستأنفة لتوبيخ أهل الكتاب وتقريعهم ، وبيان أن ما نسب إليهم من عدم الانفكاك لم يكن لاشتباه الأمر ، بل كان بعد وضوح الحق وظهور الصواب .
قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين حتى بعث الله محمدا ، فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا ، فآمن به بعضهم وكفر آخرون .
وخص أهل الكتاب ، وإن كان غيرهم مثلهم في التفرق بعد مجيء البينة لأنهم كانوا أهل علم ، فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف ، والاستثناء في قوله : إلا من بعد ما جاءتهم البينة مفرغ من أعم الأوقات : أي وما تفرقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة ، وهي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشريعة الغراء والمحجة البيضاء .
وقيل : البينة : البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل كقوله : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم [ آل عمران : 19 ] قال القرطبي : قال العلماء : من أول السورة إلى قوله : كتب قيمة حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين .
وقوله : وما تفرق إلخ فيمن لم يؤمنوا من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج .
وجملة وما أمروا إلا ليعبدوا الله في محل نصب على الحال مفيدة لتقريعهم وتوبيخهم بما فعلوا من التفرق بعد مجيء البينة : أي والحال أنهم ما أمروا في كتبهم إلا لأجل أن يعبدوا الله ويوحدوه حال كونهم مخلصين له الدين أي جاعلين دينهم خالصا له سبحانه أو جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين ، وقيل إن اللام في ليعبدوا بمعنى أن : أي ما أمروا إلا [ ص: 1644 ] بأن يعبدوا كقوله : يريد الله ليبين لكم [ النساء : 26 ] أي أن يبين ، و يريدون ليطفئوا نور الله [ الصف : 8 ] أي أن يطفئوا .
قرأ الجمهور مخلصين بكسر اللام .
وقرأ الحسن بفتحها .
وهذه الآية من الأدلة الدالة على وجوب النية في العبادات لأن الإخلاص من عمل القلب ، وانتصاب حنفاء على الحال من ضمير مخلصين ، فتكون من باب التداخل ، ويجوز أن تكون من فاعل يعبدوا ، والمعنى : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام .
قال أهل اللغة : أصله أن يحنف إلى دين الإسلام : أي يميل إليه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة أي يفعلوا الصلوات في أوقاتها ، ويعطوا الزكاة عند محلها ، وخص الصلاة والزكاة لأنهما من أعظم أركان الدين .
قيل إن أريد بالصلاة والزكاة ما في شريعة أهل الكتاب من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر ، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم باتباع شريعتنا ، وهما من جملة ما وقع الأمر به فيها وذلك دين القيمة أي وذلك المذكور من عبادة الله وإخلاصها وإقامة الصلاة والزكاة دين القيمة أي دين الملة المستقيمة .
قال الزجاج : أي ذلك دين الملة المستقيمة ، فالقيمة صفة لموصوف محذوف .
قال الخليل : القيمة جمع القيم ، والقيم : القائم .
قال الفراء : أضاف الدين إلى القيمة ، وهو نعته لاختلاف اللفظين .
وقال أيضا : هو من إضافة الشيء إلى نفسه ، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة .
ثم بين سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا فقال : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم الموصول اسم إن ، والمشركين معطوف عليه ، وخبرها في نار جهنم و خالدين فيها حال من المستكن في الخبر ، ويجوز أن يكون قوله والمشركين مجرورا عطفا على أهل الكتاب . ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة ، والإشارة بقوله : أولئك إلى من تقدم ذكرهم من أهل الكتاب والمشركين المتصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها هم شر البرية أي الخليقة ، يقال برأ : أي خلق ، والبارئ الخالق ، والبرية الخليقة .
قرأ الجمهور البرية بغير همز في الموضعين وقرأ نافع وابن ذكوان فيهما بالهمز .
قال الفراء : إن أخذت البرية من البراء وهو التراب لم تدخل الملائكة تحت هذا اللفظ ، وإن أخذتها من بريت القلم : أي قدرته دخلت .
وقيل إن الهمز هو الأصل لأنه يقال برأ الله الخلق بالهمز : أي ابتدعه واخترعه ومنه قوله : من قبل أن نبرأها [ الحديد : 22 ] ولكنها خففت الهمزة ، والتزم تخفيفها عند عامة العرب .
ثم بين حال الفريق الآخر فقال : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أولئك المنعوتون بهذا هم خير البرية قال : والمراد أن أولئك شر البرية في عصره صلى الله عليه وسلم ، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر منهم ، وهؤلاء خير البرية في عصره صلى الله عليه وسلم ، ولا يبعد أن يكون في مؤمني الأمم السابقة من هو خير منهم .
جزاؤهم عند ربهم أي ثوابهم عند خالقهم بمقابلة ما وقع منهم من الإيمان والعمل الصالح جنات عدن تجري من تحتها الأنهار والمراد بجنات عدن هي أوسط الجنات وأفضلها ، يقال عدن بالمكان يعدن عدنا : أي أقام ، ومعدن الشيء : مركزه ومستقره ، ومنه قول الأعشى :
وإن يتضافوا إلى علمه يضافوا إلى راجح قد عدن
وقد قدمنا في غير موضع أنه إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أريد مجموع قرار الأرض والشجر ، فجري الأنهار من تحتها باعتبار جزئها الظاهر ، وهو الشجر خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يظعنون عنها ، بل هم دائمون في نعيمها مستمرون في لذاتها رضي الله عنهم ورضوا عنه الجملة مستأنفة لبيان ما تفضل الله به عليهم من الزيادة على مجرد الجزاء ، وهو رضوانه عنهم حيث أطاعوا أمره وقبلوا شرائعه ، ورضاهم عنه حيث بلغوا من المطالب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا ، وأن تكون في محل نصب على الحال بإضمار قد ذلك لمن خشي ربه أي ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت له لا مجرد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه فإنها ليست بخشية على الحقيقة .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : منفكين قال : برحين .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : أتعجبون من منزلة الملائكة من الله ، والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك ، واقرأوا إن شئتم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية .
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله من أكرم الخلق على الله ؟ قال : يا عائشة أما تقرئين إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية .
وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل علي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية فكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا أقبل قالوا : قد جاء خير البرية .
وأخرج ابن عدي ، وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا علي خير البرية .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين .
وأخرج ابن مردويه عن علي مرفوعا نحوه .
وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بخير البرية ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه ، ألا أخبركم بشر البرية ؟ قالوا بلى ، [ ص: 1645 ] قال : الذي يسأل بالله ولا يعطي به .
قال أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره .
7- تفسير الظلال
هذه السورة معدودة في المصحف وفي أكثر الروايات أنها مدنية. وقد وردت بعض الروايات بمكيتها. ومع رجحان مدنيتها من ناحية الرواية، ومن ناحية أسلوب التعبير التقريري، فإن كونها مكية لا يمكن استبعاده. وذكر الزكاة فيها وذكر أهل الكتاب لا يعتبر قرينة مانعة. فقد ورد ذكر أهل الكتاب في بعض السور المقطوع بمكيتها. وكان في مكة بعض أهل الكتاب الذين آمنوا، وبعضهم لم يؤمنوا. كما أن نصارى نجران وفدوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة وآمنوا كما هو معروف. وورد ذكر الزكاة كذلك في سور مكية.
والسورة تعرض عدة حقائق تاريخية وإيمانية في أسلوب تقريري هو الذي يرجح أنها مدنية إلى جانب الروايات القائلة بهذا.
والحقيقة الأولى هي أن بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل [ ص: 3948 ] الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة:
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة: رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة ..
والحقيقة الثانية: أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالة ولا عن غموض فيه، إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البينة: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
والحقيقة الثالثة: أن الدين في أصله واحد، وقواعده بسيطة واضحة، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة .
والحقيقة الرابعة: أن الذين كفروا بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية. ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بينا:
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها. أولئك هم شر البرية. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه ..
وهذه الحقائق الأربع ذات قيمة في إدراك دور العقيدة الإسلامية ودور الرسالة الأخيرة. وفي التصور الإيماني كذلك. نفصلها فيما يلي:
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة: رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة .
لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة. كان الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة، ومنهج جديد، وحركة جديدة. وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها، أو مشركون في الجزيرة العربية وفي خارجها سواء.
وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة: رسول من الله يتلو صحفا مطهرة .. مطهرة من الشرك والكفر فيها كتب قيمة .. والكتاب يطلق على الموضوع، كما يقال كتاب الطهارة وكتاب الصلاة، وكتاب القدر، وكتاب القيامة، وهذه الصحف المطهرة - وهي هذا القرآن - فيها كتب قيمة أي موضوعات وحقائق قيمة..
ومن ثم جاءت هذه الرسالة في إبانها، وجاء هذا الرسول في وقته، وجاءت هذه الصحف وما فيها من كتب وحقائق وموضوعات لتحدث في الأرض كلها حدثا لا تصلح الأرض إلا به. فأما كيف كانت الأرض في حاجة إلى هذه الرسالة وإلى هذا الرسول فنكتفي في بيانه باقتطاف لمحات كاشفة من الكتاب القيم الذي كتبه الرجل المسلم "السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي" بعنوان: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين".. وهو أوضح وأخصر ما قرأناه في موضوعه:
جاء في الفصل الأول من الباب الأول:
[ ص: 3949 ] " كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف. فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون. وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها. وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح. وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب، فضلا عن البيوت، فضلا عن البلاد. وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة، ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فرارا بدينهم من الفتن، وضنا بأنفسهم، أو رغبة إلى الدعة والسكون، وفرارا من تكاليف الحياة وجدها، أو فشلا في كفاح الدين والسياسة، والروح والمادة ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم، وأكل أموال الناس بالباطل"...
"أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين ولعبة المجرمين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها; وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام، وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعا صافيا من الدين السماوي، ولا نظاما ثابتا من الحكم البشري"..
هذه اللمحة السريعة تصور في إجمال حالة البشرية والديانات قبيل البعثة المحمدية. وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين في مواضع شتى..
من ذلك قوله عن اليهود والنصارى: وقالت اليهود عزير ابن الله. وقالت النصارى المسيح ابن الله ..
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ..
وقوله عن اليهود: وقالت اليهود: يد الله مغلولة. غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء .
وقوله عن النصارى: لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم .. لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة .
وقوله عن المشركين: قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين .. وغيرها كثير..
وكان وراء هذا الكفر ما وراءه من الشر والانحطاط والشقاق والخراب الذي عم أرجاء الأرض ... "وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء".
ومن ثم اقتضت رحمة الله بالبشرية إرسال رسول من عنده يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة. وما كان [ ص: 3950 ] الذين كفروا من المشركين ومن الذين أوتوا الكتاب ليتحولوا عن ذلك الشر والفساد إلا ببعثة هذا الرسول المنقذ الهادي المبين ...
ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد. إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم:
8-تفسير الامام المواردى
سورة البينة
مكية في قول يحيى بن سلام ، وعند الجمهور مدنية وهو الصواب . بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة
قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين معناه لم يكن الذين كفروا من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب ، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب ، وغيرهم الذين ليس لهم كتاب . . منفكين فيه أربعة تأويلات : أحدها : لم يكونوا منتهين عن الشرك حتى تأتيهم البينة حتى يتبين لهم الحق . وهذا قول ثان : لم يزالوا مقيمين على الشرك والريبة حتى تأتيهم البينة ، يعني الرسل ، قاله الربيع .
الثالث : لم يفترقوا ولم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم رسولا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وتفرقوا ، فمنهم من آمن بربه ، ومنهم من كفر ، قاله ابن عيسى .
الرابع : لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله تعالى ، حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها عليهم الحجة ، قال امرؤ القيس
إذا قلت أنفك من حبها أبى عالق الحب إلا لزوما
[ ص: 316 ]
وفي البينة ها هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : الرسول الذي بانت فيه دلائل النبوة .
الثالث : بيان الحق وظهور الحجج . وفي قراءة أبي بن كعب : ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ، وفي قراءة ابن مسعود : لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين . رسول من الله يعني محمدا . يتلو صحفا مطهرة يعني القرآن . ويحتمل ثانيا : يتعقب بنبوته نزول الصحف المطهرة على الأنبياء قبله . وفي مطهرة وجهان :
أحدهما : من الشرك ، قاله عكرمة .
الثاني : مطهرة الحكم بحسن الذكر والثناء ، قاله قتادة . ويحتمل ثالثا : لنزولها من عند الله . فيها كتب قيمة فيه وجهان :
أحدهما : يعني كتب الله المستقيمة التي جاء القرآن بذكرها ، وثبت فيه صدقها ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : يعني فروض الله العادلة ، قاله السدي . وما تفرق الذين أوتوا الكتاب يعني اليهود والنصارى . إلا من بعد ما جاءتهم البينة فيه قولان :
أحدهما : القرآن ، قاله أبو العالية .
الثاني : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن شجرة . ويحتمل ثالثا : البينة ما في كتبهم من صحة نبوته . وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مقرين له بالعبادة .
الثاني : ناوين بقلوبهم وجه الله تعالى في عبادتهم .
الثالث : إذا قال لا إله إلا الله أن يقول على أثرها (الحمد لله) ، قاله ابن جرير .
[ ص: 317 ]
ويحتمل رابعا : إلا ليخلصوا دينهم في الإقرار بنبوته . حنفاء فيه ستة أوجه :
أحدها : متبعين .
الثاني : مستقيمين ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : مخلصين ، قاله خصيف .
الرابع : مسلمين ، قاله الضحاك ، وقال الشاعر
أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
الخامس : يعني حجاجا ، قاله ابن عباس ; وقال عطية العوفي : إذا اجتمع الحنيف والمسلم كان معنى الحنيف الحاج وإذا انفرد الحنيف كان معناه المسلم ، وقال سعيد بن جبير : لا تسمي العرب الحنيف إلا لمن حج واختتن .
السادس : أنهم المؤمنون بالرسل كلهم ، قاله أبو قلابة . ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه وذلك دين الأمة المستقيمة .
الثاني : وذلك دين القضاء القيم ، قاله ابن عباس .
الثالث : وذلك الحساب المبين ، قاله مقاتل . ويحتمل رابعا : وذلك دين من قام لله بحقه .
9- تفسير النسفى
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة
1 - لم يكن الذين كفروا ؛ بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ من أهل الكتاب ؛ أي: اليهود؛ والنصارى؛ فأهل الرجل: أخص الناس به؛ وأهل الإسلام: من يدين به؛ والمشركين ؛ عبدة الأصنام؛ منفكين ؛ منفصلين عن الكفر؛ وحذف لأن صلة "الذين"؛ تدل عليه؛ حتى تأتيهم البينة ؛ الحجة الواضحة؛ والمراد محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول: لم يتركوا كفرهم حتى بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما بعث أسلم بعض؛ وثبت على الكفر بعض .
10-تفسير السعدى
يقول تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب أي: من اليهود والنصارى والمشركين من سائر أصناف الأمم.
منفكين عن كفرهم وضلالهم الذي هم عليه، أي: لا يزالون في غيهم وضلالهم، لا يزيدهم مرور الأوقات إلا كفرا. حتى تأتيهم البينة الواضحة، والبرهان الساطع، ثم فسر تلك البينة فقال: رسول من الله أي: أرسله الله، يدعو الناس إلى الحق، وأنزل عليه كتابا يتلوه، ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ولهذا قال: يتلو صحفا مطهرة أي: محفوظة من قربان الشياطين، لا يمسها إلا المطهرون، لأنها أعلى ما يكون من الكلام.
ولهذا قال عنها: فيها أي: في تلك الصحف كتب قيمة أي: أخبار صادقة، وأوامر عادلة تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، فإذا جاءتهم هذه البينة، فحينئذ يتبين طالب الحق ممن ليس له مقصد في طلبه، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
وإذا لم يؤمن أهل الكتاب لهذا الرسول وينقادوا له، فليس ذلك ببدع من ضلالهم وعنادهم، فإنهم ما تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابا إلا من بعد ما جاءتهم البينة التي توجب لأهلها الاجتماع والاتفاق، ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم، لم يزدهم الهدى إلا ضلالا ولا البصيرة إلا عمى، مع أن الكتب كلها جاءت بأصل واحد، ودين واحد فما أمروا في سائر الشرائع إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين أي: قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه الله، وطلب الزلفى لديه، حنفاء أي: معرضين مائلين عن سائر الأديان المخالفة لدين التوحيد. وخص الصلاة والزكاة بالذكر مع أنهما داخلان في قوله ليعبدوا الله مخلصين لفضلهما وشرفهما، [ ص: 1986 ] وكونهما العبادتين اللتين من قام بهما قام بجميع شرائع الدين.
وذلك أي التوحيد والإخلاص في الدين، هو دين القيمة أي: الدين المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، وما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم.
ثم ذكر جزاء الكافرين بعدما جاءتهم البينة، فقال: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم قد أحاط بهم عذابها، واشتد عليهم عقابها، خالدين فيها لا يفتر عنهم العذاب، وهم فيها مبلسون، أولئك هم شر البرية لأنهم عرفوا الحق وتركوه، وخسروا الدنيا والآخرة.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية لأنهم عبدوا الله وعرفوه، وفازوا بنعيم الدنيا والآخرة .
جزاؤهم عند ربهم جنات عدن أي: جنات إقامة، لا ظعن فيها ولا رحيل ، ولا طلب لغاية فوقها، تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه، ورضوا عنه، بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل المثوبات ذلك الجزاء الحسن لمن خشي ربه أي: لمن خاف الله، فأحجم عن معاصيه، وقام بما أوجب عليه .
11-تفسير التحرير والتنوير لطاهر ابن عاشور
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة .
استصعب في كلام المفسرين تحصيل المعنى المستفاد من هذه الآيات الأربع [ ص: 469 ] من أول هذه السورة تحصيلا ينتزع من لفظها ونظمها ، فذكر الفخر عن الواحدي في التفسير البسيط له أنه قال : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء . قال الفخر : ( ثم إنه لم يلخص كيفية الإشكال فيها ، وأنا أقول : وجه الإشكال أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا ، لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر والشرك اللذين كانوا عليهما ؛ فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم إن كلمة ( حتى ) لانتهاء الغاية ؛ فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول - صلى الله عليه وسلم ، ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحينئذ حصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر ) اهـ كلام الفخر .
يريد أن الظاهر أن قوله : رسول من الله بدل من البينة ، وأن متعلق منفكين حذف لدلالة الكلام عليه ; لأنهم لما أجريت عليهم صلة الذين كفروا دل ذلك على أن المراد لم يكونوا منفكين على كفرهم ، وإن حرف الغاية يقتضي أن إتيان البينة المفسرة بـ رسول من الله هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كفرهم ؛ أي : فعند إتيان البينة يكونون منفكين عن كفرهم فكيف مع أن الله يقول وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة فإن تفرقهم راجع إلى تفرقهم عن الإسلام وهو ازدياد في الكفر إذ به تكثر شبه الضلال التي تبعث على التفرق في دينهم مع اتفاقهم في أصل الكفر ، وهذا الأخير بناء على اعتبار قوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلخ كلاما متصلا بإعراضهم عن الإسلام ؛ وذلك الذي درج عليه المفسرون . ولنا في ذلك كلام سيأتي .
ومما لم يذكره الفخر من وجه الإشكال : أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن ما ، وأن نصب المضارع بعد حتى ينادي على أنه منصوب بـ ( أن ) مضمرة بعد ( حتى ) فيقتضي أن إتيان البينة مستقبل ؛ وذلك لا يستقيم ، فإن البينة فسرت بـ رسول من الله وإتيان الرسول وقع قبل [ ص: 470 ] نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه : هؤلاء على كفرهم ، وهؤلاء على شركهم .
وإذ قد تقرر وجه الإشكال وكان مظنونا أنه ملحوظ للمفسرين إجمالا أو تفصيلا فقد تعين أن هذا الكلام ليس واردا على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه ، فوجب صرفه عن ظاهره ، إما بصرف تركيب الخبر عن ظاهر الإخبار وهو إفادة المخاطب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب ، بأن يصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب ، وإما بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجاز أو كناية .
فمن المفسرين من سلك طريقة صرف الخبر عن ظاهره ، ومنهم من أبقوا الخبر على ظاهر استعماله وسلكوا طريقة صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها وهؤلاء منهم من تأول لفظ ( منفكين ) ومنهم من تأول معنى ( حتى ) ومنهم من تأول ( رسول ) ، وبعضهم جوز في البينة وجهين .
وقد تعددت أقوال المفسرين فبلغت بضعة عشر قولا ذكر الألوسي أكثرها وذكر القرطبي معظمها غير معزو ، وتداخل بعض ما ذكره الألوسي ، وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر .
ومراجع تأويل الآية تئول إلى خمسة .
الأول : تأويل الجملة بأسرها بأن يئول الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب ، وإلى هذا ذهب الفراء ونفطويه والزمخشري .
الثاني : تأويل معنى منفكين بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم ؛ وهو لابن عطية .
الثالث : تأويل متعلق " منفكين " بأنه عن الكفر وهو لعبد الجبار ، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيان . أو منفكين عن الشهادة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبد الرحمن الملقب بالأصم ، أو منفكين عن الحياة ، أي : هالكين ، وعزي إلى بعض اللغويين .
[ ص: 471 ] الرابع : تأويل ( حتى ) أنها بمعنى ( إن ) الاتصالية . والتقدير : وإن جاءتهم البينة .
الخامس : تأويل ( رسول ) بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفا من عند الله فهو في معنى قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء وعزاه الفخر إلى أبي مسلم وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم .
هذا والمراد بـ الذين كفروا من أهل الكتاب أنهم كفروا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - مثلما في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب .
وأنت لا يعوزك إرجاع أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد ، فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها فدونك فراجعها إن شئت ؛ فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين .
إن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإصرار على الكفر عنادا ، فلنسلك بالخبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبة الخبرية ، فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قبيل استعمال الخبر في الإنشاء والاستفهام في التوبيخ ونحو ذلك الذي قال فيه التفتزاني في المطول : إن بيان أنه من أي أنواع المجاز هو مما لم يحم أحد حوله ، والذي تصدى السيد الشريف لبيانه بما لا يبقي فيه شبهة .
فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها ، فهو من الحكاية لما كانوا يعدون به ، فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل : كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة ، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكاية من صلف المخبر عنه ، وهو استعمال عزيز بديع . وقريب منه قوله تعالى : يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون إذ عبر بصيغة يحذر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقا ولذلك قال الله تعالى : قل استهزئوا .
[ ص: 472 ] فالخبر موجه لكل سامع ، ومضمونه قول " كان صدر من أهل الكتاب واشتهر عنهم وعرفوا به وتقرر تعلل المشركين به لأهل الكتاب حين يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا : لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم " .
وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - للإسلام ، قال تعالى : الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار الآية .
وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة ، وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله : حتى تأتيهم البينة مصادفا المحز فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقريب من قوله تعالى في أهل الكتاب ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .
وحاصل المعنى : أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة ، أي العلامة التي وعدنا بها .
وقد جعل ذلك تمهيدا وتوطئة لقوله بعده رسول من الله يتلو صحفا مطهرة إلخ .
وإذ اتضح موقع هذه الآية وانقشع إشكالها فلننتقل إلى تفسير ألفاظ الآية .
فالانفكاك : الإقلاع ، وهو مطاوع فكه إذا فصله وفرقه ويستعار لمعنى أقلع عنه ، ومتعلق منفكين محذوف ؛ دل عليه وصف المتحدث عنهم بصلة الذين كفروا والتقدير : منفكين عن كفرهم وتاركين له ، سواء كان كفرهم إشراكا بالله مثل كفر المشركين أو كان كفرا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا القول صادر من اليهود الذين في المدينة والقرى التي حولها ويتلقفه المشركون بمكة الذين لم ينقطعوا عن الاتصال بأهل الكتاب منذ ظهرت دعوة الإسلام يستفتونهم في ابتكار مخلص يتسللون به [ ص: 473 ] عن ملام من يلومهم على الإعراض عن الإسلام ، وكذلك المشركون الذين حول المدينة من الأعراب مثل جهينة وغطفان ، ومن أفراد المنتصرين بمكة أو المدينة .
وقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، وقال عنهم : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وحكى عن النصارى بقوله تعالى حكاية عن عيسى ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين . وقال عن الفريقين : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، وحكى عن المشركين بقوله : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وقولهم فليأتنا بآية كما أرسل الأولون .
ولم يختلف أهل الكتابين في أنهم أخذ عليهم العهد بانتظار نبيء ينصر الدين الحق ؛ وجعلت علاماته دلائل تظهر من دعوته كقول التوراة في سفر التثنية : ( أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه ) . ثم قولها فيه : ( وأما النبيء الذي يطغى فيتكلم كلاما لم أوصه أن يتكلم به فيموت ذلك النبي ، وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فما تكلم به النبيء باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب ) ( الإصحاح الثامن عشر ) . وقول الإنجيل ( وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد ) أي شريعته ; لأن ذات النبيء لا تمكث إلى الأبد ( روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه ) يوحنا الإصحاح الرابع عشر الفقرة 6 ( وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم بكل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم ) ( يوحنا الإصحاح الرابع عشر فقرة 26 ) .
وقوله : ويقوم أنبياء كذبة كثيرون - أي بعد عيسى - ويضلون كثيرين ، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى - أي يبقى إلى انقراض الدنيا وهو مئول ببقاء دينه إذ لا يبقى أحد حيا إلى انقراض الدنيا - فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل [ ص: 474 ] المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى - أي نهاية الدنيا - ) ( متى الإصحاح الرابع والعشرون ) ، أي : فهو خاتم الرسل كما هو بين .
وكان أحبارهم قد أساءوا التأويل للبشارات الواردة في كتبهم بالرسول المقفي ، وأدخلوا علامات يعرفون بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - الموعود به هي من المخترعات الموهومة ، فبقي من خلفهم ينتظرون تلك المخترعات فإذا لم يجدوها كذبوا المبعوث إليهم .
والبينة : الحجة الواضحة والعلامة على الصدق ، وهو اسم منقول من الوصف جرى على التأنيث لأنه مئول بالشهادة أو الآية .
ولعل إيثار التعبير بها هنا لأنها أحسن ما تترجم به العبارة الواقعة في كتب أهل الكتاب مما يحوم حول معنى الشهادة الواضحة لكل متبصر كما وقع في إنجيل متى لفظ ( شهادة لجميع الأمم ) ، ( ولعل التزام هذه الكلمة هنا مرتين كان لهذه الخصوصية ) . وقد ذكرت مع ذكر الصحف الأولى في قوله : وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى .
والظاهر أن التعريف في البينة تعريف العهد الذهني ، وهو أن يراد معهود بنوعه لا بشخصه كقولهم : ادخل السوق ، لا يريدون سوقا معينة بل ما يوجد فيه ماهية سوق ، ومنه قول زهير :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
ولذلك قال علماء البلاغة : إن المعرف بهذه اللام هو في المعنى نكرة ؛ فكأنه قيل حتى تأتيهم بينة .
ويجوز أن يكون التعريف لمعهود عند المخبر عنهم ؛ أي : البينة التي هي وصايا أنبيائهم فهي معهودة عند كل فريق منهم وإن اختلفوا في تخيلها وابتعدوا في توهمها بما تمليه عليه تخيلاتهم واختلاقهم .
وأوثرت كلمة البينة لأنها تعبر عن المعنى الوارد في كلامهم ، ولذلك نرى مادتها متكررة في آيات كثيرة من القرآن في هذا الغرض كما في قوله : أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى . وقوله : فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين [ ص: 475 ] وقوله : من بعد ما تبين لهم الحق وقال عن القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان .
و ( من ) في قوله : من أهل الكتاب بيانية بيان للذين كفروا .
وإنما قدم أهل الكتاب على المشركين هنا مع أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب ; لأن لأهل الكتاب السبق في هذا المقام فهم الذين بثوا بين المشركين شبهة انطباق البينة الموصوفة بينهم ، فأيدوا المشركين في إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بما هو أتقن من ترهات المشركين ، إذ كان المشركون أميين لا يعلمون شيئا من أحوال الرسل والشرائع ؛ فلما صدمتهم الدعوة المحمدية فزعوا إلى اليهود ليتلقوا منهم ما يردون به تلك الدعوة وخاصة بعدما هاجر النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة .
فالمقصود بالإبطال ابتداء هو دعوى أهل الكتاب وأما المشركون فتبع لهم .
واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله : حتى تأتيهم البينة ، فيكون الوقف هناك ويكون قوله : رسول من الله إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو قول الفراء ، أي : هي رسول من الله ، يعني : لأن ما في البينة من الإبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة ، وهي جملة معترضة بين جملة لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين إلى آخرها وبين جملة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب .
ويجوز أن يكون رسول بدلا من البينة فيقتضي أن يكون من تمام لفظ ( بينة ) فيكون من حكاية ما زعموه . أريد إبطال معاذيرهم وإقامة الحجة عليهم بأن البينة التي ينتظرونها قد حلت ولكنهم لا يتدبرون أو لا ينصفون أو لا يفقهون ؛ قال تعالى : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .
وتنكير ( رسول ) للنوعية المراد منها تيسير ما يستصعب كتنكير قوله تعالى : أياما معدودات وقول المص كتاب أنزل إليك .
وفي هذا التبيين إبطال لمعاذيرهم كأنه قيل : فقد جاءتكم البينة ، على حد قوله تعالى : أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير ، وهو يفيد [ ص: 476 ] أن البينة هي الرسول ، وذلك مثل قوله تعالى : قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله .
فأسلوب هذا الرد مثل أسلوب قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا .
وفي هذا تذكير بغلطهم فإن كتبهم ما وعدت إلا بمجيء رسول معه شريعة وكتاب مصدق لما بين يديه ، وذلك مما يندرج في قولة التوراة ( وأجعل كلامي في فمه ) .
وقول الإنجيل ( ويذكركم بكل ما قلته لكم ) كما تقدم آنفا ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب لأن التوراة والإنجيل لم يصفا النبيء الموعود به إلا بأنه مثل موسى أو مثل عيسى ، أي في أنه رسول يوحي الله إليه بشريعة ، وأنه يبلغ عن الله وينطق بوحيه ، وأن علامته هو الصدق كما تقدم آنفا . قال حجة الإسلام في كتاب المنقذ من الضلال : " إن مجموع الأخلاق الفاضلة كان بالغا في نبينا إلى حد الإعجاز ، وإن معجزاته كانت غاية في الظهور والكثرة " .
و من الله متعلق بـ ( رسول ) ولم يسلك طريق الإضافة ليتأتى تنوين ( رسول ) فيشعر بتعظيم هذا الرسول .
وجملة يتلو صحفا إلخ صفة ثانية أو حال ، وهي إدماج بالثناء على القرآن ، إذ الظاهر أن الرسول الموعود به في كتبهم لم يوصف بأنه يتلو صحفا مطهرة .
والتلاوة : إعادة الكلام دون زيادة عليه ولا نقص منه سواء كان كلاما مكتوبا أو محفوظا عن ظهر قلب ، ففعل يتلو مؤذن بأنه يقرأ عليهم كلاما لا تبدل ألفاظه وهو الوحي المنزل عليه .
[ ص: 477 ] والصحف : الأوراق والقراطيس التي تجعل لأن يكتب فيها ، وتكون من رق أو جلد ، أو من خرق . وتسمية ما يتلوه الرسول صحفا مجاز بعلاقة الأيلولة ; لأنه مأمور بكتابته فهو عند تلاوته سيكون صحفا ؛ فهذا المجاز كقوله : إني أراني أعصر خمرا . وهذا إشارة إلى أن الله أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكتابة القرآن في الصحف وما يشبه الصحف من أكتاف الشاء والخرق والحجارة ، وأن الوحي المنزل على الرسول سمي كتابا في قوله تعالى : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم لأجل هذا المعنى .
وتعدية فعل " يتلو " إلى " صحفا " مجاز مرسل مشهور ساوى الحقيقة قال تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب وهو باعتبار كون المتلو مكتوبا ، وإنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو عليهم القرآن عن ظهر قلب ولا يقرؤه من صحف فمعنى يتلو صحفا يتلو ما هو مكتوب في صحف ، والقرينة ظاهرة وهي اشتهار كونه - صلى الله عليه وسلم - أميا .
ووصفت الصحف بـ ( مطهرة ) وهو وصف مشتق من الطهارة المجازية ، أي : كون معانيه لا لبس فيها ولا تشتمل على ما فيه تضليل ، وهذا تعريض ببعض ما في أيدي أهل الكتاب من التحريف والأوهام .
ووصفت الصحف التي يتلوها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأن فيها كتبا ، والكتب : جمع كتاب ، وهو فعال اسم بمعنى المكتوب ؛ فمعنى كون الكتب كائنة في الصحف أن الصحف التي يكتب فيها القرآن تشتمل على القرآن وهو يشتمل على ما تضمنته كتب الرسل السابقين مما هو خالص من التحريف والباطل . وهذا كما قال تعالى :مصدقا لما بين يديه وقال : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فالقرآن زبدة ما في الكتب الأولى ومجمع ثمرتها ، فأطلق على ثمرة الكتب اسم كتب على وجه مجاز الجزئية .
والمراد بالكتب أجزاء القرآن أو سوره فهي بمثابة الكتب .
والقيمة : المستقيمة ، أي : شديدة القيام الذي هو هنا مجاز في الكمال والصواب ؛ وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيها بالقائم لاستعداده للعمل النافع ، وضده العوج قال تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ ص: 478 ] أي : لم يجعل فيه نقص الباطل والخطأ ، فالقيمة مبالغة في القائم مثل السيد للسائد والميت .
وتأنيث الوصف لاعتبار كونه وصفا لجمع .
إخوانى الأحبة والكلام و تفسير الايات كثيرة جدا ولكنى أحاول على قدر المستطاع عدم الإطالة
. ومن السنة النبوية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» ([2]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة»([3]).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله» ([4]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»([5]).
أقوال بعض أئمة الدين في فساد عقيدة النصارى وضلالهم:
قال عمر رضي الله عنه: (لقد سبت النصارى اللهَ سباً لم يسبه أحد لا قبلهم ولا بعدهم، إذ نسبوا إليه الصاحبة والولد).
وقال أبو الطيب بن الباقلاني لأحد الرهبان، وقد سافر إلى قبرص لمناظرتهم: (كيف حال الزوجة والأولاد؟)، فقال له الراهب: أما تعلم أن الراهب منزه عن الزوجة والأولاد؟ فقال له ابن الباقلاني: (سبحان الله، تنزهون الراهب عن الصاحبة والولد، ولا تنزهون الخالق)! فبهت الذي كفر.
فأي نحلة أضل من نحلة تنزه الراهب أكثر من تنزيهها لربها وخالقها؟
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن الذي يدين به المسلمون من أن محمداً بعث رسولاً إلى الثقلين الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله، مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه).
إلى أن قال: (ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (ما بأيدي النصارى من الدين باطله أضعاف حقه... وحقه منسوخ .
وقال واصفاً النصارى بعد وصفه لليهود: (والصنف الثاني "المثلثة"، أمة الضلال، وعباد الصليب، الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء، بل قالوا فيه ما {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}، فقل ما شئتَ في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته، وأن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن.
فدينها عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: يا والدة الله ارزقينا، واغفري لنا، وارحمينا!
فدينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة، والحلال ما حلله القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم، وينجيهم من عذاب السعير)
شبهات الملحدين الذين يلقونها على ابناء الاسلام
وهنا نتكلم عن بعض الشبهات التى يوردها أعداء الإسلام وقد تنطلي على البعض حتى رأينا بعض الحركات المحسوبة على التيار الإسلامى تردد مثل هذة الشبهات
قوله تعالى : (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين إنا نصارى ..) فظن بعض الناس أن فيها تزكية للنصارى من جهة المسلمين وأنهم ليسوا أعداء للإسلام والمسلمين والأمر ليس كذلك .. فنظرت -ولا أدعيه- ما تيسر لي من كتب أهل العلم على عُجَالة .. فإليك ما نظرت فيه والشروع في ِ
تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى الذين قالوا إنا نصارى قال تسموا بقرية يقال لها ناصرة وكان عيسى بن مريم ينزلها). [تفسير عبد الرزاق: 1/187]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا قال نزلت في النجاشي وأصحابه إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين). [تفسير عبد الرزاق: 1/190]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: لتجدنّ أشدّ النّاس عداوةً للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: لتجدنّ يا محمّد أشدّ النّاس عداوةً للّذين صدّقوك واتّبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام اليهود والّذين أشركوا يعني عبدة الأوثان الّذين اتّخذوا الأوثان آلهةً يعبدونها من دون اللّه ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا، يقول ولتجدنّ أقرب النّاس مودّةً ومحبّةً. والمودّة: المفعلة من قول الرّجل: وددت كذا أودّه ودًّا وودًّا وودًّا ومودّةً، إذا أحببته. للّذين آمنوا، يقول: للّذين صدقوا اللّه ورسوله محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم. الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون عن قبول الحقّ واتّباعه والإذعان به.
وقيل: إنّ هذه الآية والّتي بعدها نزلت في نفرٍ قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من نصارى الحبشة، فلمّا سمعوا القرآن أسلموا واتّبعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقيل: إنّها نزلت في النّجاشيّ ملك الحبشة وأصحابٍ له أسلموا معه:.
- حدّثنا محمّد بن عبد الملك بن أبي الشّوارب، قال: حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، قال: حدّثنا خصيفٌ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: بعث النّجاشيّ وفدًا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقرأ عليهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأسلموا. قال: فأنزل اللّه تعالى فيهم: {لتجدنّ أشدّ النّاس عداوةً للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا} إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النّجاشيّ فأخبروه، فأسلم النّجاشيّ، فلم يزل مسلمًا حتّى مات. قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّ أخاكم النّجاشيّ قد مات، فصلّوا عليه، فصلّى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة، والنّجاشيّ ثم.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى}، قال: هم الوفد الّذين جاءوا مع جعفرٍ وأصحابه من أرض الحبشة.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى}، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بمكّة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفر بن أبي طالبٍ وابن مسعودٍ وعثمان بن مظعونٍ في رهطٍ من أصحابه إلى النّجاشيّ ملك الحبشة، فلمّا بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهطٍ منهم، ذكر أنّهم سبقوا أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى النّجاشيّ، فقالوا: إنّه خرج فينا رجلٌ سفّه عقول قريشٍ وأحلامها، زعم أنّه نبيّ، وإنّه بعث إليك رهطًا ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون. فقدم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأموا باب النّجاشيّ فقالوا: أستأذن لأولياء اللّه؟ فقال: ائذن لهم، فمرحبًا بأولياء اللّه، فلمّا دخلوا عليه سلّموا، فقال له الرّهط من المشركين: ألا ترى أيّها الملك أنّا صدقناك، لم يحيّوك بتحيّتك الّتي تحيّا بها؟ فقال لهم: ما منعكم أن تحيّوني بتحيّتي؟
فقالوا: إنّا حيّيناك بتحيّة أهل الجنّة وتحيّة الملائكة. قال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمّه؟ قال: يقول: هو عبد اللّه وكلمةٌ من اللّه ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، ويقول في مريم: إنّها العذراء البتول. قال: فأخذ عودًا من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمّه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود، فكره المشركون قوله، وتغيّرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئًا ممّا أنزل عليكم؟ قالوا: نعم. قال: اقرءوا، فقرؤوا، وهنالك منهم قسّيسون ورهبانٌ وسائر النّصارى، فعرفت كلّ ما قرأوا، وانحدرت دموعهم ممّا عرفوا من الحقّ. قال اللّه تعالى ذكره: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول} الآية.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثني أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى} الآية. قال: بعث النّجاشيّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اثني عشر رجلاً من الحبشة، سبعةً قسّيسين وخمسةً رهبانًا، ينظرون إليه ويسألونه. فلمّا لقوه فقرأ عليهم ما أنزل اللّه بكوا وآمنوا، فأنزل اللّه عليه فيهم: {وأنّهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين}، فآمنوا ثمّ رجعوا إلى النّجاشيّ، فهاجر النّجاشيّ معهم، فمات في الطّريق، فصلّى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون واستغفروا له.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال عطاءٌ في قوله: {ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى} الآية، هم ناسٌ من الحبشة آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين.
وقال آخرون: بل هذه صفة قومٍ كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان، فلمّا بعث اللّه تعالى ذكره نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم آمنوا به.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا}، فقرأ حتّى بلغ {فاكتبنا مع الشّاهدين}: أناسٌ من أهل الكتاب كانوا على شريعةٍ من الحقّ ممّا جاء به عيسى، يؤمنون به وينتهون إليه، فلمّا بعث اللّه نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم صدّقوا به وآمنوا، وعرفوا الّذي جاء به أنّه الحقّ، فأثنى عليهم ما تسمعون.
والصّواب في ذلك من القول عندي أنّ اللّه تعالى وصف صفة قومٍ قالوا: إنّا نصارى، أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يجدهم أقرب النّاس ودادًا لأهل الإيمان باللّه ورسوله، ولم يسمّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النّجاشيّ، ويجوز أن يكون أريد به قومٌ كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإسلام فأسلموا لمّا سمعوا القرآن وعرفوا أنّه الحقّ، ولم يستكبروا عنه.
وأمّا قوله تعالى: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا}، فإنّه يقول: قرّبت مودّة هؤلاء الّذين وصف اللّه صفتهم للمؤمنين من أجل أنّ منهم قسّيسين ورهبانًا. والقسّيسون: جمع قسّيسٍ، وقد يجمع القسّيس: قسوسٌ، لأنّ القسّ والقسّيس بمعنًى واحدٍ.
وكان ابن زيدٍ يقول في القسّيس بما:.
- حدّثنا يونس، قال: حدّثنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: القسّيسين: عبّادهم.
وأمّا الرّهبان، فإنّه يكون واحدًا وجمعًا، فأمّا إذا كان جمعًا فإنّ واحدهم يكون راهبًا، ويكون الرّاهب حينئذٍ فاعلاً من قول القائل: رهب اللّه فلانٌ، بمعنى: خافه، يرهبه رهبًا ورهبًا، ثمّ يجمع الرّاهب رهبانٌ، مثل راكبٍ وركبانٍ، وفارسٍ وفرسانٍ. ومن الدّليل على أنّه قد يكون عند العرب جمعًا قول الشّاعر:.
رهبان مدين لو رأوك تنزّلوا = والعصم من شعف العقول الفادر
وقد يكون الرّهبان واحدًا، وإذا كان واحدًا كان جمعه رهابين، مثل قربانٍ وقرابين، وجردانٍ وجرادين. ويجوز جمعه أيضًا رهابنةٌ إذا كان كذلك. ومن الدّليل على أنّه قد يكون عند العرب واحدًا قول الشّاعر:.
لو عاينت رهبان ديرٍ في القلل = لانحدر الرّهبان يمشي ونزل
واختلف أهل التّأويل في المعنيّ بقوله: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا}، فقال بعضهم: عني بذلك قومٌ كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم، واتّبعوه على شريعته.
ذكر من قال ذلك.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن حصينٍ، عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا}، قال: كانوا نواتيّ في البحر يعني ملاّحين قال: فمرّ بهم عيسى ابن مريم، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه. قال: فذلك قوله: {قسّيسين ورهبانًا}.
وقال آخرون: بل عني بذلك القوم الّذين كان النّجاشيّ بعثهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّام بن سلمٍ، قال: حدّثنا عنبسة، عمّن حدّثه، عن أبي صالحٍ، في قوله: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا} قال: ستّةٌ وستّون، أو سبعةٌ وستّون، أو اثنان وستّون من الحبشة، كلّهم صاحب صومعةٍ، عليهم ثياب الصّوف.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن سفيان، عن سالمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا} قال: بعث النّجاشيّ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خمسين أو سبعين من خيارهم، فجعلوا يبكون، فقال: هم هؤلاء.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا قيسٌ، عن سالمٍ الأفطس، عن سعيد بن جبيرٍ: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا} قال: هم رسل النّجاشيّ الّذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلاً اختارهم الخيّر فالخيّر. فدخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقرأ عليهم: {يس والقرآن الحكيم}، فبكوا وعرفوا الحقّ، فأنزل اللّه فيهم: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون}، وأنزل فيهم: {الّذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} إلى قوله: {يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا}.
والصّواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إنّ اللّه تعالى ذكره أخبر عن النّفر الّذين أثنى عليهم من النّصارى بقرب مودّتهم لأهل الإيمان باللّه ورسوله، أنّ ذلك إنّما كان منهم لأنّ منهم أهل اجتهادٍ في العبادة وترهبٍ في الدّيارات والصّوامع، وأنّ منهم علماء بكتبهم، وأهل تلاوةٍ لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحقّ إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبيّنوه لأنّهم أهل دينٍ واجتهادٍ فيه ونصيحةٍ لأنفسهم في ذات اللّه، وليسوا كاليهود الّذين قد دربوا بقتل الأنبياء والرّسل ومعاندة اللّه في أمره ونهيه وتحريف تنزيله الّذي أنزله في كتبه). [جامع البيان: 8/593-600]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (لتجدنّ أشدّ النّاس عداوةً للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون (82)
قوله تعالى: ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى
قال
هم الوفد الّذين جاءوا مع جعفرٍ وأصحابه من أرض الحبشة- وروي عن عطاءٍ نحو ذلك.
- وحدّثنا ابن إبراهيم بن حمزة، ثنا يحيى بن عبدك بن، حدّثنا سليمان بن كثيرٍ عن حصينٍ قال: ثنا حمزة عن ابن عطاءٍ عن أبيه قال: ما ذكر اللّه به النّصارى من خيرٍ فإنّما يراد به النّجاشيّ وأصحابه.
قوله تعالى: ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا
- ذكر أبي، ثنا يحيى بن عبد الحميد الحمّانيّ، ثنا نصير بن زيادٍ القاريّ، ثنا صلتٌ الدّهّان عن جامية بن ديابٍ قال: سمعت سلمان وسئل عن قوله: ذلك بأنّ منهم قسّيسين قال: هم الرّهبان الّذين في الصّوامع والحزب فدعوهم فيها.
- قال سلمان وقرأت على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك بأنّ منهم قسّيسين فأقرأني «ذلك بأنّ منهم صدّيقين ورهبانًا»
- حدّثني أبي، ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا هذيلٌ الهمذانيّ، ثنا شريكٌ عن سالمٍ عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا قال: هم أصحاب النّجاشيّ بعث من خيار أصحابه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بثلاثين رجلا فقرأ عليهم يس فبكوا وقالوا نعرف واللّه فنزلت فيهم.
- حدّثنا أبي، ثنا سعيد بن سليمان، ثنا البراء بن يزيد قال: سمعت الحسن في قوله: ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا قال: علماؤهم وفقهاؤهم.
قوله تعالى: وأنّهم لا يستكبرون
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ فيما كتب إليّ، ثنا أحمد بن المفضّل ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: وأنّهم لا يستكبرون قال: بعث النّجاشيّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اثنى عشر رجلًا سبعة قسيسين وخمسة رهبانا، ينظرون إليه ويسألونه، فلمّا لقوه فقرأ عليهم ما أنزل إليه بكوا وأسفوا فأنزل اللّه فيهم وأنّهم لا يستكبرون). [تفسير القرآن العظيم: 4/1183-1184]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى قال هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة). [تفسير مجاهد: 202]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا} [المائدة: 82]
- عن سلمان «وسئل عن قول اللّه تعالى: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا} [المائدة: 82]) قال: الرّهبان الّذين في الصّوامع. قال سلمان: نزلت على رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا} [المائدة: 82]».
رواه الطّبرانيّ، وفيه يحيى الحمّانيّ ونصير بن زيادٍ وكلاهما ضعيفٌ). [مجمع الزوائد: 7/17]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا معاوية بن هشامٍ، عن نصر بن زياد الطائي، حدثني الصلت الدهان عن حامية بن رئاب قال: "سألت سلمان- رضي اللّه عنه- عن هذه الآية (ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً) فقال: دع القسّيسين في الصّوامع والخرب، أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً".
- رواه الحارث بن محمّد بن أبي أسامة: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحمّانيّ، ثنا نضير بن زيادٍ الطّائيّ، عن صلتٍ الدّهّان، عن حامية بن رئابٍ قال: "سمعت سلمان وسئل عن قوله تعالى: (ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً" قال: هم الرّهبان الّذين في الصّوامع والخرب دعوهم فيها. قال سلمان: وقرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً) فأقرأني: "ذلك بأنّ منهم صدّيقين ورهبانًا"). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/205-206]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وقال أبو بكرٍ: حدثنا معاوية بن هشامٍ، ثنا (نصير) بن زيادٍ الطّائيّ، حدّثني الصّلت، عن حامية بن رقاب، قال: سألت سلمان رضي الله عنه عن هذه الآية: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا}، فقال: دع القسّيسين في الصّوامع والخرب، أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ذلك بأنّ منهم صدّيقين ورهبانًا.
- [2] (وقال الحارث: حدثنا) يحيى بن عبد الحميد، ثنا نصير بن زياد، فذكره بلفظٍ: فقال: هم الرّهبان الّذين في الصّوامع والخرب دعوهم فيها، قال سلمان رضي الله عنه: وقرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك بأنّ منهم قسّيسين، فأقرأني ذلك بأنّ منهم صدّيقين). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/614-616]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وقال الحارث: حدثنا (سريج) بن يونس، ثنا مروان - هو ابن معاوية - حدّثني خصيفٌ، عن سعيد بن جبيرٍ قال: بعث النّجاشيّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفدًا من أصحابه.. الحديث.
وأنزلت فيهم: {لتجدنّ أشدّ النّاس عداوةً للّذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) } الآية.
(148) وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في السّيرة النّبويّة). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/637]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسن ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم}
- أخرج أبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله وفي لفظ: إلا حدث نفسه بقتله). [الدر المنثور: 5/404]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ولتجدن أقربهم مودة} الآيات.
أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} قال: هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من ارض الحبشة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: ما ذكر الله به النصارى قال: هم ناس من الحبشة آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم
وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير قالوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتابا إلى النجاشي فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ عليهم سورة
مريم فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع وهم الذين أنزل فيهم {ولتجدن أقربهم مودة} إلى قوله {مع الشاهدين}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} قال: هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه كانوا سبعين رجلا أختارهم من قومه الخير الخير فالخير في الفقه والسن وفي لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق فأنزل الله فيهم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} الآية، ونزلت هذه الآية فيهم أيضا {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} القصص الآية 52 إلى قوله {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} القصص الآية 54.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عروة قال: كانوا يرون أن هذه الآية نزلت في النجاشي {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} قال: إنهم كانوا برايين يعني ملاحين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجعتم إلى أرضكم انقلبتم عن دينكم فقالوا لن ننقلب عن ديننا فأنزل الله ذلك من قولهم {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول}.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في الذين أقبلوا مع جعفر من أرض الحبشة وكان جعفر لحق بالحبشة هو وأربعون معه من قريش وخمسون من الأشعريين منهم أربعة من عك أكبرهم أبو عامر الأشعري وأصغرهم عامر فذكر لنا أن قريشا بعثوا في طلبهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد فأتوا النجاشي فقالوا: أن هؤلاء قد أفسدوا دين قومهم فأرسل اليهم فجاؤوا فسألهم فقالوا: بعث الله فينا نبيا كما بعث في الأمم قبلنا يدعونا إلى الله وحده ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بالصلة وينهانا عن القطيعة ويأمرنا بالوفاء وينهانا عن النكث وإن قومنا بغوا علينا وأخرجونا حين صدقناه وآمنا به فلم نجد
أحد نلجأ إليه غيرك فقال: معروفا، فقال عمرو وصاحبه: انهم يقولون في عيسى غير الذي تقول، قال: وما تقولون في عيسى قالوا: نشهد أنه عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ولدته عذراء بتول، قال: ما أخطأتم ثم قال لعمرو وصاحبه: لولا أنكما أقبلتما في جواري لفعلت بكما وذكر لنا أن جعفر وأصحابه إذ أقبلوا جاء أولئك معهم فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال قائل: لو قد رجعوا إلى أرضهم لحقوا بدينهم فحدثنا أنه قدم مع جعفر سبعون منهم فلما قرأ عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فاضت أعينهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي قال بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إثنا عشر رجلا سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه قرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا وأنزل الله فيهم: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب، وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم وذكروا أنهم سبقوا أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا انه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها زعم أنه نبي وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم، قال: أن جاؤوني نظرت فيما يقولون فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي فقالوا: استأذن لأولياء الله فقال: ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله فلما دخلوا عليه سلموا فقال الرهط من المشركين: ألم تر أيها الملك انا صدقناك وانهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيى بها، فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيوني بتيحيتي قالوا: أنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه قالوا: يقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم ويقول في مريم: إنها العذراء الطيبة البتول، قال: فأخذ عودا من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود فكره المشركون قوله وتغير لون وجوههم فقال: هل تقرأون شيئا مما أنزل عليكم قالوا: نعم، قال: فاقرأوا وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، قال الله {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}.
وأخرج الطبراني عن سلمان في إسلامه قال لما قدم النّبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة صنعت طعاما فجئت به فقال: ما هذا قلت: صدقة، فقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل ثم إني رجعت حتى جمعت طعاما فأتيته به فقال: ما هذا قلت: هدية، فأكل وقال لأصحابه: كلوا، قلت يا رسول الله أخبرني عن النصارى قال: لا خير فيهم ولا فيمن أحبهم فقمت وأنا مثقل فانزل الله {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود} حتى بلغ {تفيض من الدمع} فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا سلمان أن أصحابك هؤلاء الذين ذكر الله.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله {ولتجدن أقربهم مودة} الآية، قال: أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى يؤمنون به وينتهون إليه فلما بعث الله محمدا صدقوه وآمنوا به وعرفوا ما جاء به من الحق أنه من الله فأثنى عليهم بما تسمعون.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن أبي شيبة في مسنده، وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والحارث بن أسامة في مسنده والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبزار وابن الأنباري في المصاحف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني، وابن مردويه عن سلمان أنه سئل عن قوله {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} قال: الرهبان الذين في الصوامع نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} ولفظ البزار دع القسيسين أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذلك بأن منهم صديقين) ولفظ الحكيم الترمذي: قرأت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم {ذلك بأن منهم قسيسين} فأقرأني (ذلك بأن منهم صديقين).
وأخرج البيهقي في الدلائل عن سلمان قال: كنت يتيما من رامهرمز وكان ابن دهقان رامهرمز يختلف إلى معلم يعلمه فلزمته لأكون في كنفه وكان لي أخ اكبر مني وكان مستغنيا في نفسه وكنت غلاما فقيرا فكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه فإذا تفرقوا خرج فتقنع بثوبه ثم صعد الجبل فكان يفعل ذلك غير مرة متنكرا قال: فقلت اما انك تفعل كذا وكذا فلم لا تذهب بي معك قال: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء، قال: قلت لا تخف، قال: فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة وصلاح يذكرون الله عز وجل ويذكرون الآخرة يزعمون انا عبدة النيران وعبدة الأوثان وأنا على غير دين، قلت: فاذهب بي معك إليهم، قال: لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم وانا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي فيقتل القوم فيجري هلاكهم على يدي، قال: قلت لن يظهر مني ذلك فاستأمرهم فقال: غلام عندي يتيم فأحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم قالوا: أن كنت تثق به، قال: أرجو أن لا يجيء منه إلا ما أحب، قالوا: فجيء به، فقال لي: قد استأذنت القوم أن تجيء معي فإذا كانت الساعة التي رأيتني أخرج فيها فأتني ولا يعلم بك احد فإن أبي إن علم قتلهم، قال: فلما كانت الساعة التي يخرج تبعته فصعد الجبل فانتهينا إليهم فإذا هم في برطيلهم، قال: علي، وأراه قال: هم ستة أو سبعة، قال: وكانت الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر وما وجدوا فقعدنا إليهم فأثنى ابن الدهقان علي خيرا فتكلموا فحمدوا الله واثنوا عليه وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى بن مريم قالوا: بعثه الله وولده بغير ذكر بعثه الله رسوله وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى وخلق الطير وابراء الأعمى والأبرص فكفر به قوم وتبعه قوم، وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به خلقه، قال: وقالوا قبل ذلك: يا غلام أن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا إليها تصير وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون وليسوا على دين فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام انصرف وانصرفت معه ثم غدونا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن فلزمتهم فقالوا: يا غلام إنك غلام وانك لا تستطيع أن تصنع كما نصنع فكل واشرب وصل ونم، قال: فاطلع الملك على صنيع ابنه فركب الخيل حتى اتاهم في برطيلهم فقال: يا هؤلاء قد جاورتموني فأحسنت جوراكم ولم تروا مني سوءا فعمدتم إلى ابني فافسدتموه علي قد أجلتكم ثلاثا فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا فالحقوا ببلادكم فاني أكره أن يكون مني إليكم سوء، قالوا: نعم ما تعمدنا إساءتك ولا أردنا إلا الخير فكف ابنه عن إتيانهم فقلت له: اتق الله فانك تعرف أن هذا الدين دين الله وإن أباك ونحن على غير دين إنما هم عبدة النيران لا يعرفون الله فلا تبع آخرتك بدنيا غيرك، قال: يا سلمان هو كما تقول وإنما أتخلف عن القوم بقيا عليهم أن اتبعت القوم يطلبني أبي في الخيل وقد جزع من إتياني إياهم حتى طردهم وقد أعرف أن الحق في أيديهم، قلت: أنت اعلم ثم لقيت اخي فعرضت عليه فقال: انا مشتغل بنفسي وطلب المعيشة فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه فقالوا: يا سلمان قد كنا نحذر فكان ما رأيت اتق الله واعلم أن الدين ما أوصيناك به وإن هؤلاء عبدة النيران لا يعرفون الله ولا يذكرونه فلا يخدعنك أحد عن ذلك، قلت: ما أنا بمفارقكم، قالوا: إنك لا تقدر على أن تكون معنا نحن نصوم النهار ونقوم الليل ونأكل الشجر وما أصبنا وأنت لا تستطيع ذلك، قال: قلت: لا أفارقكم، قالوا: أنت اعلم قد اعلمناك حالنا فإذا أبيت فاطلب أحدا يكون معك واحمل معك شيئا تأكله لا تستطيع ما نستطيع نحن، قال: ففعلت فلقيت أخي فعرضت عليه فأبى فأتيتهم فتحملوا فكانوا يمشون وأمشي معهم فرزقنا الله السلامة حتى أتينا الموصل فأتينا بيعه بالموصل فلما دخلوا حفوا بهم وقالوا: أين كنتم قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله بها عباد نيران فطردونا فقدمنا عليكم فلما كان بعد قالوا: يا سلمان إن ههنا قوما في هذه الجبال هم أهل دين وإنا نريد لقاءهم فكن أنت ههنا مع هؤلاء فإنهم أهل دين وسترى منهم ما تحب قلت: ما أنا بمفارقكم، قال: وأوصوا بي أهل البيعة فقال أهل دين البيعة: أقم معنا فإنه لا يعجزك شيء يسعنا، قلت: ما انا بمفارقكم، فخرجوا وأنا معهم فأصبحنا بين الجبال فإذا صخرة وماء كثير في جرار وخبز كثير فقعدنا عند الصخرة فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال يخرج رجل رجل من مكانه كأن الأرواح انتزعت منهم حتى كثروا فرحبوا بهم وحفوا وقالوا: أين كنتم لم نركم قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون اسم الله فيها عبدة النيران وكنا نعبد الله فيها فطردونا فقالوا: ما هذا الغلام قال: فطفقوا يثنون علي وقالوا: صحبنا من تلك البلاد فلم نر منه إلا خيرا، قال: فو الله إنهم لكذا إذ طلع عليهم رجل من كهف رجل طويل فجاء حتى سلم وجلس فحف به أصحابي الذين كنت معهم وعظموه وأحدقوا به فقال لهم: أين كنتم فأخبروه فقال: وما هذا الغلام معكم فأثنوا علي خيرا وأخبروه باتباعي إياهم ولم أر مثل إعظامهم إياه فحمد الله واثنى عليه ثم ذكر من أرسل من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر مولد عيسى بن مريم وإنه ولد بغير ذكر فبعثه الله رسولا وأجرى على يديه إحياء الموتى وابراء الأعمى والأبرص وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأنزل عليه الإنجيل وعلمه التوراة وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل فكفر به قوم وآمن به قوم وذكر بعض ما لقي عيسى بن مريم وأنه كان عبدا انعم الله عليه فشكر ذلك له ورضي عنه حتى قبضه الله وهو يعظمهم ويقول: اتقوا الله والزموا ما جاء عيسى به ولا تخالفوا فيخالف بكم ثم قال: من أراد أن يأخذ من هذا شيئا فليأخذ، فجعل الرجل يقوم فيأخذ الجرة من الماء والطعام والشيء وقام إليه أصحابي الذين جئت معهم فسلموا عليه وعظموه فقال لهم: الزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا واستوصوا بهذا الغلام خيرا وقال لي: هذا دين الله الذي ليس له دين فوقه وما سواه هو الكفر، قال: قلت: ما أفارقك، قال: إنك لن تستطيع أن تكون معي إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد لا تقدر على الكينونة معي، قال: وأقبل على أصحابه فقالوا: يا غلام إنك لا تستطيع أن تكون معه، قلت: ما أنا بمفارقك، قال: يا غلام فإني أعلمك الآن إني أدخل هذا الكهف ولا أخرج منه إلى الأحد الآخر وأنت أعلم، قلت: ما أنا بمفارقك، قال له أصحابه: يا فلان هذا غلام ونخاف عليه، قال: قال لي: أنت أعلم، قلت: إني لا أفارقك، فبكى أصحابي الاولون الذين كنت معهم عند فراقهم إياي، فقال: خذ من هذا الطعام ما ترى أنه يكفيك إلى الأحد الآخر وخذ من هذا الماء ما تكتفي به ففعلت وتفرقوا وذهب كل إنسان إلى مكانه الذي يكون فيه وتبعته حتى دخل الكهف في الجبل فقال: ضع ما معك وكل واشرب وقام يصلي فقمت معه أصلي قال: وانفتل إلي فقال: إنك لا تستطيع هذا ولكن صل ونم وكل واشرب ففعلت فما رأيته لا نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الاحد الآخر، فلما أصبحنا قال: خذ جرتك هذه وانطلق فخرجت معه أتبعه حتى انتهينا إلى الصخرة وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال واجتمعوا إلى الصخرة ينتظرون خروجه فقعدوا وجاد في حديثه نحو المرة الأولى، فقال: الزموا هذا الدين ولا تفرقوا واتقوا الله واعلموا أن عيسى بن مريم كان عبد الله انعم الله عليه ثم ذكروني فقالوا: يا فلان كيف وجدت هذا الغلام فاثنى علي وقال: خيرا، فحمدوا الله فإذا خبز كثير وماء فأخذوا وجعل الرجل يأخذ بقدر ما يكتفي به ففعلت وتفرقوا في تلك الجبال ورجع إلى كهفه ورجعت معه، فلبث ما شاء الله يخرج في كل يوم احد ويخرجون معه ويوصيهم بما كان يوصيهم به فخرج في أحد فلما اجتمعوا حمد الله ووعظهم وقال مثل ما كان يقول لهم ثم قال لهم آخر ذلك: يا هؤلاء إني قد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وأنه لا عهد لي بهذا البيت منذ كذا وكذا ولا بد لي من إتيانه فاستوصوا بهذا الغلام خيرا واني رأيته لا بأس به قال: فجزع القوم فما رأيت مثل جزعهم وقالوا: يا أبا فلان أنت كبير وأنت وحدك ولا نأمن أن يصيبك الشيء ولسنا أحوج ما كنا إليك، قال: لا تراجعوني لا بد لي من إتيانه ولكن استوصوا بهذا الغلام خيرا وافعلوا وافعلوا، قال: قلت: ما أنا بمفارقك، قال: يا سلمان قد رأيت حالي وما كنت عليه وليس هذا لك إنما أمشي أصوم النهار وأقوم الليل ولا أستطيع أن أحمل معي زادا ولاغيره ولا تقدر على هذا، قال: قلت: ما أنا بمفارقك، قال: أنت أعلم قالوا: يا أبا فلان إنا نخاف عليك وعلى هذا الغلام، قال: هو أعلم قد أعلمته الحالة وقد رأى ما كان قبل هذا، قلت: لا أفارقك، فبكوا وودعوه وقال لهم: اتقوا الله وكونوا على ما أوصيتكم به فإن أعش فلعلي أرجع إليكم وإن أمت فإن الله حي لا يموت فسلم عليهم وخرج وخرجت معه وقال لي: احمل معك من هذا الخبز شيئا تأكله، فخرج وخرجت معه يمشي واتبعه يذكر الله ولا يلتفت ولا يقف على شيء حتى إذ امسى قال: يا سلمان صل أنت ونم وكل واشرب ثم قام هو يصلي إلى أن انتهى إلى بيت المقدس وكان لا يرفع طرفه إلى السماء حتى انتهينا إلى بيت المقدس وإذا على الباب مقعد قال: يا عبد الله قد ترى حالي فتصدق علي بشيء فلم يلتفت إليه ودخل المسجد ودخلت معه فجعل يتتبع أمكنة من المسجد يصلي فيها ثم قال: يا سلمان إني لم أنم منذ كذا وكذا ولم أجد طعم نوم فإن انت جعلت لي أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت فاني أحب أن أنام في هذا المسجد وإلا لم أنم، قال: قلت: فإني أفعل، قال: فانظر إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني إذا غلبتني عيني فنام فقلت في نفسي: هذا لم ينم منذ كذا وكذا وقد رأيت بعض ذلك لأدعنه ينام حتى يشتفى من النوم، وكان فيما يمشي وأنا معه يقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا وإن بين يديه جنة ونارا وحسابا ويعلمني بذلك ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الاحد حتى قال فيما يقول لي: يا سلمان الله تعالى سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهامة - وكان رجلا أعجميا لا يحسن أن يقول تهامة ولا محمد - علامته انه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب فأما أنا فاني شيخ كبير ولا أحسبني ادركه فإن أدركته انت فصدقه واتبعه، قلت: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه قال: وإن أمرك فإن الحق فيما يجيء به ورضا الرحمن فيما قال، فلم يمض إلا يسير حتى استيقظ فزعا يذكر الله تعالى فقال: يا سلمان مضى الفيء من هذا المكان ولم أذكر الله أينما جعلت لي على نفسك قال: قلت: أخبرتني أنك لم تنم منذ كذا وكذا وقد رأيت بعض ذلك فاحببت أن تشتفي من النوم فحمد الله فقام وخرج فتبعته فقال المقعد: يا عبد الله دخلت فسألتك فلم تعطني وخرجت فسألتك فلم تعطني فقام ينظر هل يرى أحد فلم يره فدنا منه فقال: ناولني يدك فناوله فقال: قم بسم الله فقام كأنه نشط من عقال صحيحا لا عيب فيه فخلى عن يده فانطلق ذاهبا فكان لا يلوي على أحد ولا يقوم عليه فقال لي المقعد: يا غلام أحمل على ثيابي حتى أنطلق وأبشر أهلي فحملت عليه ثيابه وانطلق لا يلوي علي، فخرجت في أثره أطلبه وكلما سالت عنه قالوا: أمامك، حتى لقيني الركب من كلب فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني فجعلني خلفه حتى بلغوا بي بلادهم قال: فباعوني فاشترتني امرأة من الانصار فجعلتني في حائط لها وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائطي فجعلته على شيء ثم أتيته فوجدت عنده اناسا وإذا أبو بكر أقرب القوم منه فوضعته بين يديه فقال: ما هذا قلت صدقة، فقال للقوم: كلوا ولم يأكل هو ثم لبثت ما شاء الله ثم اخذت مثل ذلك فجعلته على شيء ثم أتيته به فوجدت عنده أناسا وإذا أبو بكر أقرب القوم منه فوضعته بين يديه فقال: ما هذا قلت: هدية، قال: بسم الله فأكل وأكل القوم قال: قلت: في نفسي هذه من آياته كان صاحبي رجلا أعجميا لم يحسن أن يقول تهامة قال تهمة وقال أحمد فدرت خلفه ففطن بي فأرخى ثوبه فإذا الخاتم في ناحية كتفه الايسر فتبينته ثم درت حتى جلست بين يديه فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله، قال: من أنت قلت: مملوك فحدثته بحديثي وحديث الرجل الذي كنت معه وما امرني به قال: لمن أنت قلت: لامرأة من الانصار جعلتني في حائط لها، قال: يا أبا بكر قال: لبيك، قال: اشتره، قال: فاشتراني أبو بكر فاعتقني فلبثت ما شاء الله أن ألبث ثم أتيته فسلمت عليه وقعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله ما تقول في دين النصارى قال: لا خير فيهم ولا في دينهم فدخلني أمر عظيم فقلت في نفسي: هذا الذي كنت معه ورأيت منه ما رأيت أخذ بيد المقعد فأقامه الله على يديه لا خير في هؤلاء ولا في دينهم فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله فأنزل الله بعد على النّبيّ صلى الله عليه وسلم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم علي بسلمان فأتاني الرسول فدعاني وأنا خائف فجئت حتى قعدت بين يديه فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية، فقال: يا سلمان أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى إنما كانوا مسلمين فقلت: يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لقد امرني باتباعك، فقلت له: وإن امرني بترك دينك وما أنت عليه فأتركه قال: نعم فاتركه فإن الحق وما يحب الله فيما يأمرك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله {قسيسين} قال: علماؤهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: القسيسون، عبادهم
وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال: سألت الزهري عن هذه الآية {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} وقوله {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} الفرقان الآية 63 قال: مازلت أسمع علمائنا يقولون: نزلت في النجاشي وأصحابه). [الدر المنثور: 5/404-419]
تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) )
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع}
- أخبرنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا عمر بن عليّ بن مقدّمٍ، قال: سمعت هشام بن عروة يحدّث عن أبيه، عن عبد الله بن الزّبير، قال: " نزلت هذه الآية في النّجاشيّ وأصحابه، {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع} [المائدة: 83]). [السنن الكبرى للنسائي: 10/84]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين}.
يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء الّذين قالوا إنّا نصارى الّذين وصفت لك يا محمّد صفتهم أنّك تجدهم أقرب النّاس مودّةً للّذين آمنوا، ما أنزل إليك من الكتاب يتلى {ترى أعينهم تفيض من الدّمع}، وفيض العين من الدّمع: امتلاؤها منه ثمّ سيلانه منها كفيض النّهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدّة امتلائه، ومنه قول الأعشى:.
ففاضت دموعي فظلّ الشّؤ = ن إمّا وكيفًا وإمّا انحدارا.
وقوله: {ممّا عرفوا من الحقّ} يقول: فيض دموعهم لمعرفتهم بأنّ الّذي يتلى عليهم من كتاب اللّه الّذي أنزله إلى رسول اللّه حقٌّ:.
- كما حدّثنا هنّاد بن السّريّ، قال: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، قال: حدّثنا أسباط بن نصرٍ الهمدانيّ، عن إسماعيل بن عبد الرّحمن السّدّيّ، قال: بعث النّجاشيّ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم اثنى عشر رجلاً يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم القرآن فبكوا. وكان منهم سبعةٌ رهبانٌ وخمسةٌ قسّيسون، أو خمسةٌ رهبانٌ وسبعةٌ قسّيسون، فأنزل اللّه فيهم: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع} إلى آخر الآية.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا عمر بن عليّ بن مقدّمٍ، قال: سمعت هشام بن عروة، يحدّث، عن أبيه، عن عبد اللّه بن الزّبير، قال: نزلت في النّجاشيّ وأصحابه: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع}.
- حدّثنا هنّادٌ قال: حدّثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله: {ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ}، قال: ذلك في النّجاشيّ.
- حدّثنا هنّادٌ وابن وكيعٍ، قالا: حدّثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانوا يرون أنّ هذه الآية أنزلت في النّجاشيّ: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع}.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، قال: قال ابن إسحاق، سألت الزّهريّ عن الآيات: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع} الآية، وقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}، قال: ما زلت أسمع علماءنا يقولون: نزلت في النّجاشيّ وأصحابه.
وأمّا قوله: {يقولون}، فإنّه لو كان بلفظ اسمٍ كان نصبًا على الحال، لأنّ معنى الكلام: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ قائلين: ربّنا آمنّا.
ويعني بقوله تعالى ذكره: {يقولون ربّنا آمنّا} أنّهم يقولون: يا ربّنا صدّقنا لمّا سمعنا ما أنزلته إلى نبيّك محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم من كتابك، وأقررنا به أنّه من عندك، وأنّه الحقّ لا شكّ فيه.
وأمّا قوله: {فاكتبنا مع الشّاهدين}، فإنّه روي عن ابن عبّاسٍ وغيره في تأويله ما.
- حدّثنا به، هنّادٌ قال: حدّثنا وكيعٌ، وحدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي وابن نميرٍ، جميعًا عن إسرائيل، عن سماكٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {فاكتبنا مع الشّاهدين}، قال: أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، {فاكتبنا مع الشّاهدين} مع أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ قال: حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {فاكتبنا مع الشّاهدين} يعنون بالشّاهدين محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وأمّته.
- حدّثني الحرث قال: حدّثنا عبد العزيز قال: حدّثنا إسرائيل، عن سماكٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {فاكتبنا مع الشّاهدين}، قال: محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وأمّته، أنّهم شهدوا أنّه قد بلّغ، وشهدوا أنّ الرّسل قد بلّغت.
- حدّثنا الرّبيع قال: حدّثنا أسد بن موسى قال: حدّثنا يحيى بن زكريّا قال: حدّثني إسرائيل، عن سماكٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز غير أنّه قال: وشهدوا للرّسل أنّهم قد بلّغوا.
فكأنّ متأوّل هذا التّأويل قصد بتأويله هذا إلى معنى قول اللّه تعالى ذكره: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا}، فذهب ابن عبّاسٍ إلى أنّ الشّاهدين هم الشّهداء في قوله: {لتكونوا شهداء على النّاس}، وهم أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وإذا كان التّأويل ذلك كان معنى الكلام: يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين الّذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة أنّهم قد بلّغوا أممهم رسالاتك.
ولو قال قائلٌ: معنى ذلك: فاكتبنا مع الشّاهدين الّذين يشهدون أنّ ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حقٌّ، كان صوابًا لأنّ ذلك خاتمة قوله: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين}، وذلك صفةٌ من اللّه تعالى ذكره لهم بإيمانهم لمّا سمعوا من كتاب اللّه، فتكون مسألتهم أيضًا اللّه أن يجعلهم ممّن صحّت عنده شهادتهم بذلك، ويلحقهم في الثّواب والجزاء منازلهم.
ومعنى الكتاب في هذا الموضع: الجعل، يقول: فاجعلنا مع الشّاهدين، وأثبتنا معهم في عدادهم). [جامع البيان: 8/600-604]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين (83)
قوله تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ عن سعيدٍ عن قتادة قوله: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع قال: هم أناسٌ من أهل الكتاب كانوا على شريعةٍ من الحقّ ممّا جاء به عيسى عليه الصّلاة والسّلام، يؤمنون به وينتهون إليه، فلمّا بعث الله نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فصدّقوا وآمنوا به وعرفوا الّذي جاء به أنّه الحقّ من اللّه فأثنى عليهم كما تسمعون قوله تعالى: ترى أعينهم
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جعفر بن أبي طالبٍ وابن مسعودٍ وعثمان بن مظعونٍ في رهطٍ من أصحابه إلى النّجاشيّ فلمّا دخلوا عليه قال: تعرفون ما أنزل إليكم قالوا نعم: قال: اقرءوا فقرءوا وهنالك منهم قسّيسين ورهبانٌ وساير النّصارى، فجعلت طائفةٌ كلّما قرءوا آيةً انحدرت دموعهم ممّا عرفوا من الحقّ ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ
- حدّثنا محمّد بن عزيزٍ الأيليّ، حدّثني سلامة بن روح عن عمه غفيل، حدّثني ابن شهابٍ، أخبرني سعيد بن المسيّب وأبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشامٍ وعروة بن الزّبير، قالوا: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عمرو بن أميّة الضّمريّ. وكتب معه كتابًا إلى النّجاشيّ، فقدم على النّجاشيّ، فقرأ كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ دعا جعفر ابن أبي طالبٍ والمهاجرين معه، وأرسل النّجاشيّ إلى الرّهبان والقسّيسين، ثمّ أمر جعفر بن أبي طالبٍ فقرأ عليهم سورة مريم فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدّمع فهم الّذين أنزل اللّه فيهم ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إلى قوله: ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين
- حدّثنا أبي، ثنا منصور بن أبي مزاحمٍ، ثنا أبو سعيد بن أبي الزّجّاج عن سالمٍ عن سعيدٍ قال: نزلت في أصحاب النّجاشيّ الّذين أسلموا وكانوا سبعين رجلا فقرأ عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سورة يس فبكوا وأسلموا فذلك قوله: ترى أعينهم تفيض من الدّمع
- حدّثنا أبي، ثنا عمرو بن عليٍّ، ثنا عمر بن عليٍّ المقدسيّ قال: سمعت هشام بن عروة يحدّث عن أبيه عن عبد اللّه بن الزّبير قال: نزلت هذه الآية في النّجاشيّ وأصحابه وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع وقوله: يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا وكيعٌ عن إسرائيل عن سماكٍ عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ فاكتبنا مع الشّاهدين قال: أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا إبراهيم بن موسى أنا ابن أبي زائدة ثنا إسرائيل عن سماكٍ عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين قال مع محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وأمّته أنّهم قد شهدوا أنّه قد بلّغ وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا). [تفسير القرآن العظيم: 4/1184-1185]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفّان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل، عن سماك بن حربٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، في قوله عزّ وجلّ {فاكتبنا مع الشّاهدين} [المائدة: 83] قال: «مع أمّة محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وأمّته شهدوا له بالبلاغ، وشهدوا للرّسل أنّهم قد بلّغوا» هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه "). [المستدرك: 2/343]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {وإذ سمعوا ما أنزل إلى الرّسول} [المائدة: 83]
- عن ابن عبّاسٍ في «قوله: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع} [المائدة: 83]
قال: إنّهم كانوا نوّاتين - يعني ملّاحين - قدموا مع جعفر بن أبي طالبٍ من الحبشة، فلمّا قرأ عليهم رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - القرآن آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم -: " لعلّكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم عن دينكم "، قالوا: لن ننقلب عن ديننا، فأنزل اللّه ذلك في قولهم».
رواه الطّبرانيّ في الأوسط والكبير، وفيه العبّاس بن الفضل الأنصاريّ وهو ضعيفٌ. قلت: ولهذا الحديث طرقٌ بنحوه في الصّلاة على الغائب، وفي مناقب النّجاشيّ). [مجمع الزوائد: 7/17-18]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين} [المائدة: 83]
- عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين} [المائدة: 83]) قال: مع محمّدٍ - صلّى اللّه عليه وسلّم - وأمّته، فإنّهم شهدوا له أنّه قد بلّغ، وشهد للرّسل أنّهم قد بلّغوا.
رواه الطّبرانيّ عن شيخه عبد اللّه بن محمّد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيفٌ). [مجمع الزوائد: 7/18]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله {فاكتبنا مع الشاهدين} قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: قال: يعنون بالشاهدين محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته أنهم قد شهدوا له أنه بلغ وشهدوا للمرسلين أنهم قد بلغوا). [الدر المنثور: 5/419]
تفسير قوله تعالى: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين}.
وهذا خبرٌ من اللّه تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الّذين وصف صفتهم في هذه الآيات، أنّهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم من كتابه، آمنوا به وصدّقوا كتاب اللّه، وقالوا: ما لنا لا نؤمن باللّه؟ يقول: لا نقرّ بوحدانيّة اللّه، {وما جاءنا من الحقّ} يقول: وما جاءنا من عند اللّه من كتابه وآي تنزيله، ونحن نطمع بإيماننا بذلك {أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين}، يعني بالقوم الصّالحين: المؤمنين باللّه المطيعين له، الّذين استحقّوا من اللّه الجنّة بطاعتهم إيّاه.
وإنّما معنى ذلك: ونحن نطمع أن يدخلنا ربّنا مع أهل طاعته مداخلهم من جنّته يوم القيامة، ويلحق منازلنا بمنازلهم، ودرجاتنا بدرجاتهم في جنّاته.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين}، قال: القوم الصّالحون: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه). [جامع البيان: 8/604-605]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين (84)
قوله تعالى: وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصّالحين
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ، ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيدٍ يقول في قول اللّه: وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين قال: القوم الصّالحون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه). [تفسير القرآن العظيم: 4/1186]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله {ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} قال: القوم الصالحون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصاحبه رضي الله عنهم). [الدر المنثور: 5/419]
تفسير قوله تعالى: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فأثابهم اللّه بما قالوا جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين}
يقول تعالى ذكره: فجزاهم اللّه بقولهم: ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين، وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ، ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين {جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار}، يعني: بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار، {خالدين فيها}، يقول: دائمًا فيها مكثهم، لا يخرجون منها ولا يحوّلون عنها {وذلك جزاء المحسنين}، يقول: وهذا الّذي جزيت هؤلاء القائلين بما وصفت عنهم من قيلهم على ما قالوا من الجنّات الّتي هم فيها خالدون، جزاء كلّ محسنٍ في قيله وفعله. وإحسان المحسن في ذلك أن يوحّد اللّه توحيدًا خالصًا محضًا لا شرك فيه، ويقرّ بأنبياء اللّه وما جاءت به من عند اللّه من الكتب، ويؤدّي فرائضه، ويجتنب معاصيه، فذلك كمال إحسان المحسنين الّذين قال اللّه تعالى: {جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها}). [جامع البيان: 8/605]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (فأثابهم اللّه بما قالوا جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (85)
قوله تعالى: فأثابهم اللّه بما قالوا جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا وكيعٌ عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن مسروقٍ قال: قال عبد اللّه: أنهار الجنّة تفجّر من جبل مسكٍ.
- حدّثنا أبو بكر بن أبي موسى الأنصاريّ، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ عن أسباطٍ عن السّدّيّ عن أبي مالكٍ تجري من تحتها الأنهار يعني: المساكن تجري أسفلها أنهارها.
قوله تعالى: خالدين فيها
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا أبو غسّان، ثنا سلمة قال محمّد بن إسحاق، حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة عن ابن عبّاسٍ خالدين فيها يخبرهم أنّ الثّواب مقيمٌ على أهله أبدًا لا انقطاع له). [تفسير القرآن العظيم: 4/1186]
تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم}
يقول تعالى ذكره: وأمّا الّذين جحدوا توحيد اللّه، وأنكروا نبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وكذّبوا بآيات كتابه، فإنّ أولئك أصحاب الجحيم، يقول: هم سكّانها واللاّبثون فيها.
والجحيم: ما اشتدّ من النّار، وهو الجاحم والجحيم). [جامع البيان: 8/606]
التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }
قالَ مُحمدُ بنُ الجَهْمِ السُّمَّرِيُّ (ت: 277هـ): (وقوله: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين...}
نزلت فيمن أسلم من النصارى. ويقال: هو النّجاشي وأصحابه. قال الفرّاء ويقال: النجاشي). [معاني القرآن للفراء: 1/318]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {لتجدنّ أشدّ النّاس عداوة للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانا وأنّهم لا يستكبرون (82)}
وذلك أن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين، والمؤمنون يؤمنون بموسى والتوراة التي أتى بها، وكان ينبغي أن يكونوا إلى من وافقهم في الإيمان بنبيهم وكتابهم أقرب، فظاهروا المشركين حسدا للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: (لتجدنّ) هذه اللام لام القسم، والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال، هذا مذهب الخليل وسيبويه، ومن يوثق بعلمه.
وقوله: (عداوة) منصوب على التمييز.
{ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى}.
في هذه غير وجه، جاء في التفسير أن نيفا وثلاثين من الحبش من النصارى جاءوا وجماعة معهم، فأسلموا لمّا تلا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (القرآن).
وجائز أن يكون يعنى به النصارى؛ لأنهم كانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود، ويكون قوله: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول}.
على معنى {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانا}، ومنهم قوم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول، يعني به ههنا مؤمنيهم، والقسّ والقيس من رؤساء النصارى، فأمّا القس في اللغة فهي النميمة ونشر الحديث، يقال: قس فلان الحديث قسّا.
ومعنى {فاكتبنا مع الشاهدين}.
أي مع من شهد من أنبيائك عليهم السلام ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك). [معاني القرآن: 2/199-200]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى}
قال سعيد بن جبير: هم سبعون رجلا وجه بهم النجاشي وكانوا أجل من عنده فقها وسنا، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم يس فبكوا، وقالوا: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
وأنزل الله فيهم أيضا الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} إلى آخر الآية.
وروي عن ابن عباس أنه قال: هم من الحبشة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان معهم رهبان من رهبان الشام فآمنوا ولم يرجعوا). [معاني القرآن: 2/348-349]
تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) )
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {فاكتبنا مع الشاهدين}.
روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويبين لك صحة هذا القول قوله جل وعز: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}). [معاني القرآن: 2/349]
تفسير قوله تعالى: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) )
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين (84)
موضع (لا نؤمن باللّه) نصب على الحال، المعنى أي شيء لنا تاركين للإيمان، أي في حال تركنا للإيمان، وذلك أن قومهم عنفوهم على إيمانهم، فأجابوهم بأن قالوا: ما لنا لا نؤمن بالله). [معاني القرآن: 2/200]
تفسير قوله تعالى: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) )
تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) )
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجل: (والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (86)
الجحيم النّار الشديدة الوقود، وقد جحم فلان النار إذا شدّد وقودها، - ويقال لعين الأسد: جحمة لشدة توقدها، ويقال لوقود الحرب: وهو شدة القتال فيها: جاحم.
قال الشاعر:
=والخيل لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح
إلا الفتى الصّبّار في النجدات والفرس الوقاح). [معاني القرآن: 2/200-201]
تفسير قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: لتجدنّ أشدّ النّاس عداوةً للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين (83)
اللام في قوله لتجدنّ لام الابتداء، وقال الزجّاج هي لام قسم، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ودربوا العتو والمعاصي ومردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لجت عداواتهم وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كفر وعروشهم ثل، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة، والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا فسلمهم صاف، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم سر حين غلبت الروم فارس، وذلك لكونهم أهل كتاب، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو الغوائل إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا. ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين، وفي قوله تعالى: الّذين قالوا إنّا نصارى إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم، وقوله تعالى: ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً معناه ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هذي، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يرى فيهم زاهد، ويقال «قس» بفتح القاف وبكسرها وقسيس وهو اسم أعجمي عرّب، والقس في كلام العرب النميمة وليس من هذا، وأما الرهبان فجمع راهب. وهذه تسمية عربية والرهب الخوف، ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر جرير:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا = والعصم من شغف العقول الفادر
وقد قيل الرهبان اسم مفرد والدليل عليه قول الشاعر:
لو عاينت رهبان دير في القلل = تحدّر الرهبان يمشي ونزل
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويروى و «يزل» بالياء من الزلل، وهذا الرواية أبلغ في معنى غلبة هذه المرأة على ذهن هذا الراهب، ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون وهذا بين موجود فيهم حتى الآن، واليهودي متى وجد غرورا طغى وتكبر وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله، وذكر سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فآمن، ولم يزل مؤمنا حتى مات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وذكر السدي: أنهم كانوا اثني عشر سبعة قسيسين وخمسة رهبان. وقال أبو صالح: كانوا سبعة وستين رجلا، وقال سعيد بن جبير: كانوا سبعين عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخير بالخير، وذكر السدي: أن النجاشي خرج مهاجرا فمات في الطريق.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة، وقال قتادة: نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد، وروى سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا). [المحرر الوجيز: 3/230-234]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم الآية الضمير في سمعوا ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة، إذ هم عرفوا الحق وقالوا آمنا، وليس كل النصارى يفعل ذلك، وصدر الآية في قرب المودة عام فيها ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصا فيمن آمن لأن من آمن فهو من الذين آمنوا وليس يقال فيه قالوا إنا نصارى ولا يقال في مؤمنين: ذلك بأنّ منهم قسّيسين ولا يقال إنهم أقرب مودة، بل من آمن فهو أهل مودة محضة، فإنما وقع التخصيص من قوله تعالى: وإذا سمعوا وجاء الضمير عاما إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منها، وفي هذا استدعاء للنصارى ولطف من الله تعالى بهم، ولقد يوجد فيض الدموع غالبا فيهم وإن لم يؤمنوا، وروي أن وفدا من نجران قدم على أبي بكر الصديق في شيء من أمورهم فأمر من يقرأ القرآن بحضرتهم فبكوا بكاء شديدا فقال أبو بكر: هكذا كنا ولكن قست القلوب، وروي أن راهبا من رهبان ديارات الشام نظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى عبادتهم وجدهم في قتال عدوهم فعجب من حالهم، وبكى، وقال: ما كان الذين نشروا بالمناشير على دين عيسى بأصبر من هؤلاء ولا أجدّ في دينهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده، فلما رأوه قرأ عليهم القرآن وهو المراد بقوله تعالى: ما أنزل إلى الرّسول فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله ورقت القلوب. والرؤية رؤية العين، وتفيض حال من الأعين، ويقولون حال أيضا وآمنّا معناه صدقنا أن هذا رسولك والمسموع كتابك والشاهدون محمد وأمته، قاله ابن عباس وابن جريج وغيرهما، وقال الطبري: لو قال قائل معنى ذلك مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان ذلك صوابا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا معنى قول الطبري وهو كلام صحيح، وكان ابن عباس رضي الله عنه خصص أمة محمد عليه السلام لقول الله تعالى: وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً [البقرة: 143]). [المحرر الوجيز: 3/234-236]
تفسير قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين (84) فأثابهم اللّه بما قالوا جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (85) والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (86) يا أيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ اللّه لكم ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين (87)
قولهم وما لنا توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار بأن قال لهم آمنتم وعجلتم.
فقالوا وأي شيء يصدنا عن الإيمان وقد لاح الصواب وجاء الحق المنير وما لنا ابتداء وخبر، ولا نؤمن في موضع الحال، ولكنها حال هي المقصد وفيها الفائدة: كما تقول جاء زيد راكبا وأنت قد سئلت هل جاء ماشيا أو راكبا. وفي مصحف ابن مسعود «وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل إلينا ربنا». ونطمع تقديره ونحن نطمع. فالواو عاطفة جملة على الجملة لا عاطفة فعل على فعل و «القوم الصالحون» محمد وأصحابه، قاله ابن زيد وغيره من المفسرين). [المحرر الوجيز: 3/236]
تفسير قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم ذكر الله تعالى ما أثابهم به من النعيم على إيمانهم وإحسانهم). [المحرر الوجيز: 3/236]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم ذكر حال الكافرين المكذبين وأنهم قرناء الجحيم، والمعنى قد علم من غير ما آية من كتاب الله أنه اقتران لازم دائم أبدي). [المحرر الوجيز: 3/236]
تفسير قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لتجدنّ أشدّ النّاس عداوةً للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين (83) وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين (84) فأثابهم اللّه بما قالوا جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (85) والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (86)}
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: نزلت هذه الآيات في النّجاشيّ وأصحابه، الّذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالبٍ بالحبشة القرآن بكوا حتّى أخضلوا لحاهم. وهذا القول فيه نظرٌ؛ لأنّ هذه الآية مدنيّةٌ، وقصّة جعفرٍ مع النّجاشيّ قبل الهجرة.
وقال سعيد بن جبير والسّدّي وغيرهما: نزلت في وفد بعثهم النّجاشيّ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته، فلما قرأ عليهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا، ثمّ رجعوا إلى النّجاشيّ فأخبروه.
قال السّدّيّ: فهاجر النّجاشيّ فمات في الطّريق.
وهذا من إفراد السّدّيّ؛ فإنّ النّجاشيّ مات وهو ملك الحبشة، وصلّى عليه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم مات، وأخبر به أصحابه، وأخبر أنّه مات بأرض الحبشة.
ثمّ اختلف في عدة هذا الوفد، فقيل: اثنا عشر، سبعة قساوسةٍ وخمسة رهابين. وقيل بالعكس. وقيل: خمسون. وقيل: بضعٌ وستّون. وقيل: سبعون رجلًا. فاللّه أعلم.
وقال عطاء بن أبي رباح: هم قومٌ من أهل الحبشة، أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين، وقال قتادة: هم قومٌ كانوا على دين عيسى ابن مريم، فلمّا رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا. واختار ابن جريرٍ أنّ هذه [الآية] نزلت في صفة أقوامٍ بهذه المثابة، سواءٌ أكانوا من الحبشة أو غيرها.
فقوله [تعالى] {لتجدنّ أشدّ النّاس عداوةً للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا} ما ذاك إلّا لأنّ كفر اليهود عنادٌ وجحودٌ ومباهتةٌ للحقّ، وغمط للنّاس وتنقص بحملة العلم. ولهذا قتلوا كثيرًا من الأنبياء حتّى همّوا بقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غير مرّةٍ وسحروه، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين -عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه عند تفسير هذه الآية: حدّثنا أحمد بن محمّد بن السّرّي: حدّثنا محمّد بن عليّ بن حبيبٍ الرّقي، حدّثنا سعيدٌ العلّاف بن العلّاف، حدّثنا أبو النّضر، عن الأشجعيّ، عن سفيان، عن يحيى بن عبد اللّه عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما خلا يهوديٌّ قطّ بمسلمٍ إلّا همّ بقتله".
ثمّ رواه عن محمّد بن أحمد بن إسحاق اليشكري حدّثنا أحمد بن سهل بن أيّوب الأهوازيّ، حدّثنا فرج بن عبيدٍ، حدّثنا عبّاد بن العوّام، عن يحيى بن عبيد اللّه، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما خلا يهوديٌّ بمسلمٍ إلّا حدّثت نفسه بقتله". وهذا حديثٌ غريبٌ جدًا.
وقوله: {ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى} أي: الّذين زعموا أنّهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودّةٌ للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلّا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرّقّة والرّأفة، كما قال تعالى: {وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه رأفةً ورحمةً} [الحديد: 27] وفي كتابهم: من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر. وليس القتال مشروعًا في ملّتهم؛ ولهذا قال تعالى: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون} أي: يوجد فيهم القسّيسون -وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحدهم: قسّيسٌ وقس أيضًا، وقد يجمع على قسوسٍ-والرّهبان: جمع راهبٍ، وهو: العابد. مشتقٌّ من الرّهبة، وهي الخوف كراكبٍ وركبانٍ، وفارسٍ وفرسانٍ.
وقال ابن جريرٍ: وقد يكون الرّهبان واحدًا وجمعه رهابين، مثل قربانٍ وقرابين، وجردان وجرادين وقد يجمع على رهابنةٍ. ومن الدّليل على أنّه يكون عند العرب واحدًا قول الشّاعر:
لو عاينت رهبان دير في القلل = لانحدر الرّهبان يمشي ونزل
وقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا بشر بن آدم، حدّثنا نصير بن أبي الأشعث، حدّثني الصّلت الدّهّان، عن حامية بن رئابٍ قال: سألت سلمان عن قول اللّه [عزّ وجلّ]: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا} فقال: دع "القسّيسين" في البيع والخرب، أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ذلك بأنّ منهم صدّيقين ورهبانًا".
وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحمّاني، عن نصير بن زيادٍ الطّائيّ، عن صلت الدّهان، عن حامية بن رئاب، عن سلمان، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: ذكره أبي، حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحمّاني، حدّثنا نصير بن زيادٍ الطّائيّ، حدّثنا صلتٌ الدّهّان، عن حامية بن رئابٍ قال: سمعت سلمان وسئل عن قوله: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا} قال: هم الرّهبان الّذين هم في الصّوامع والخرب، فدعوهم فيها، قال سلمان: وقرأت على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم {ذلك بأنّ منهم قسّيسين [ورهبانًا]} فأقرأني: "ذلك بأنّ منهم صديقين ورهبانا".
فقوله: {ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون} تضمّن وصفهم بأنّ فيهم العلم والعبادة والتّواضع). [تفسير القرآن العظيم: 3/166-168]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ وصفهم بالانقياد للحقّ واتّباعه والإنصاف، فقال: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ} أي: ممّا عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم {يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين} أي: مع من يشهد بصحّة هذا ويؤمن به.
وقد روى النّسائيّ عن عمرو بن عليٍّ الفلاس، عن عمر بن عليّ بن مقدّم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد اللّه بن الزّبير [رضي اللّه عنهما] قال: نزلت هذه الآية في النّجاشيّ وفي أصحابه: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين}
وقال الطّبرانيّ: حدّثنا أبو شبيل عبيد اللّه بن عبد الرّحمن بن واقدٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا العبّاس بن الفضل، عن عبد الجبّار بن نافعٍ الضّبّيّ، عن قتادة وجعفر بن إياسٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قول اللّه: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع} قال: إنّهم كانوا كرابين -يعني: فلّاحين-قدموا مع جعفر بن أبي طالبٍ من الحبشة، فلمّا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ولعلّكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم". فقالوا: لن ننتقل عن ديننا. فأنزل اللّه ذلك من قولهم.
وروى ابن أبي حاتمٍ: وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من طريق سماك عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {فاكتبنا مع الشّاهدين} أي: مع محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وأمّته هم الشّاهدون، يشهدون لنبيّهم أنّه قد بلّغ، وللرّسل أنّهم قد بلّغوا. ثمّ قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه). [تفسير القرآن العظيم: 3/168]
تفسير قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين} وهذا الصّنف من النّصارى هم المذكورون في قوله [عزّ وجلّ] {وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه [لا يشترون بآيات اللّه ثمنًا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربّهم إنّ اللّه سريع الحساب]} الآية [آل عمران:199]، وهم الّذين قال اللّه فيهم: {الّذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنّا به إنّه الحقّ من ربّنا إنّا كنّا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السّيّئة وممّا رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللّغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم]} إلى قوله {لا نبتغي الجاهلين} [القصص:52-55]؛ ولهذا قال تعالى ههنا: {فأثابهم اللّه بما قالوا جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} ). [تفسير القرآن العظيم: 3/168-169]
تفسير قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فأثابهم اللّه بما قالوا جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} أي: فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحقّ {جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} أي: ساكنين فيها أبدًا، لا يحوّلون ولا يزولون، {وذلك جزاء المحسنين} أي: في اتّباعهم الحقّ وانقيادهم له حيث كان، وأين كان، ومع من كان). [تفسير القرآن العظيم: 3/169]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ أخبر عن حال الأشقياء فقال: {والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا} أي: جحدوا بها وخالفوها {أولئك أصحاب الجحيم} أي: هم أهلها والدّاخلون إليها). [تفسير القرآن العظيم: 3/169]
وقال العلَّامة ابن القيم (بدائع الفوائد-186,185,184) :
( وجه تفسير المغضوب عليهم باليهود, والضالين بالنصارى مع تلازم وصفي الغضب والضلال .. فالجواب أن يقال: هذا ليس بتخصيص نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه, لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصيفها وأحقها به وألصقه بها وذلك هو الوصف الغالب عليهما ..)
وقال في موضع آخر : ( وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى: ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) فهذا خطاب للنصارى ..
ثم قال : وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالاً بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق .. ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس المقصود فيكون ضالاً فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده ويعبده وقد يصيب مقصوداً حقاً لكن يضل في طريق طلبه والسبيل الموصلة إليه
فالأول : ضلال في الغاية.
والثانية ضلال في الوسيلة .
ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله , أسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه ..إلخ كلامه النفيس الماتع [ اهـ.
شبهة
لقول في تأويل قوله ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ( 43 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : وكيف يحكمك هؤلاء اليهود ، يا محمد ، بينهم ، فيرضون بك حكما بينهم"وعندهم التوراة " التي أنزلتها على موسى ، التي يقرون بها أنها حق ، وأنها كتابي الذي أنزلته إلى نبيي ، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي ، يعلمون ذلك لا يتناكرونه ، ولا يتدافعونه ، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم ، وهم مع علمهم بذلك"يتولون " ، يقول : يتركون الحكم به ، بعد العلم بحكمي فيه ، جراءة علي وعصيانا لي .
وهذا ، وإن كان من الله تعالى ذكره خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فإنه تقريع منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية . يقول لهم تعالى ذكره : كيف تقرون ، أيها اليهود ، بحكم نبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إياه ، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجب ، جاءكم به موسى من عند الله؟ يقول : فإذ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرون [ ص: 337 ] بنبوته في كتابي ، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيي محمد أنه حكمي - أحرى ، مع جحودكم نبوته .
ثم قال تعالى ذكره مخبرا عن حال هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده ، وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمه ، الزائلين عن محجة الحق"وما أولئك بالمؤمنين " ، يقول : ليس من فعل هذا الفعل - أي : من تولى عن حكم الله الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه في خلقه بالذي صدق الله ورسوله فأقر بتوحيده ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك ليس من فعل أهل الإيمان .
وأصل " التولي عن الشيء " ، الانصراف عنه ، كما : -
12002 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير : " ثم يتولون من بعد ذلك " ، قال : "توليهم " ، ما تركوا من كتاب الله .
12003 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " ، يعني : حدود الله ، فأخبر الله بحكمه في التوراة .
12004 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وعندهم التوراة فيها حكم الله " ، أي : بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم " ثم يتولون من بعد ذلك " ، الآية .
12005 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال ، قال يعني الرب تعالى ذكره يعيرهم : " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " ، يقول : الرجم .
تفسير قولة تعالى غير المغضوب عليهم ولا الضالين
( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( 7 ) ) تفسير ابن كثير
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد : ( اهدنا الصراط المستقيم ) إلى آخرها أن الله يقول : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل . وقوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) مفسر للصراط المستقيم . وهو بدل منه عند النحاة ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، والله أعلم .
و الذين أنعمت عليهم ) هم المذكورون في سورة النساء ، حيث قال : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ) [ النساء : 69 ، 70 ] .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ، من ملائكتك ، وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ) الآية [ النساء : 69 ] .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) قال : هم النبيون . وقال ابن جريج ، عن ابن عباس : هم المؤمنون . وكذا قال مجاهد . وقال وكيع : هم المسلمون . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه . والتفسير المتقدم ، عن ابن عباس أعم ، وأشمل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) [ قرأ الجمهور : غير بالجر على النعت ، قال الزمخشري : وقرئ بالنصب على الحال ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو الحال الضمير في ( عليهم ) والعامل : ( أنعمت ) والمعنى ] اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم ، [ وهم ] الذين فسدت إرادتهم ، فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ، وأكد الكلام ب " لا " ليدل على أن ثم مسلكين فاسدين ، وهما طريقتا اليهود والنصارى .
وقد زعم بعض النحاة أن ( غير ) هاهنا استثنائية ، فيكون على هذا منقطعا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم ، وما أوردناه أولى ، لقول الشاعر : كأنك من جمال بني أقيش يقعقع عند رجليه بشن
أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة ، وهكذا ، غير المغضوب عليهم ) [ ص: 141 ] أي : غير صراط المغضوب عليهم .
اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف ، وقد دل عليه سياق الكلام ، وهو قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) ثم قال تعالى : ( غير المغضوب عليهم ) ومنهم من زعم أن ( لا ) في قوله : ( ولا الضالين ) زائدة ، وأن تقدير الكلام عنده : غير المغضوب عليهم والضالين ، واستشهد ببيت العجاج :
في بئر لا حور سرى وما شعر
أي في بئر حور . والصحيح ما قدمناه . ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " فضائل القرآن " ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أنه كان يقرأ : غير المغضوب عليهم وغير الضالين . وهذا إسناد صحيح ، [ وكذا حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك ] وهو محمول على أنه صدر منه على وجه التفسير ، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي ، [ لئلا يتوهم أنه معطوف على الذين أنعمت عليهم ) ] ، وللفرق بين الطريقتين ، لتجتنب كل منهما ؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا العلم ؛ ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ، لأن من علم وترك استحق الغضب ، بخلاف من لم يعلم . والنصارى لما كانوا قاصدين شيئا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه ؛ لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه ، وهو اتباع الرسول الحق ، ضلوا ، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه ، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب [ كما قال فيهم : ( من لعنه الله وغضب عليه ) ] [ المائدة : 60 ] وأخص أوصاف النصارى الضلال [ كما قال : ( قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل " ] ) [ المائدة : 77 ] ، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار . [ وذلك واضح بين ] . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت سماك بن حرب ، يقول : سمعت عباد بن حبيش ، يحدث عن عدي بن حاتم ، قال : جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا عمتي وناسا ، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوا له ، فقالت : يا رسول الله ، ناء الوافد وانقطع الولد ، وأنا عجوز كبيرة ، ما بي من خدمة ، فمن علي من الله عليك ، قال : من وافدك ؟ قالت : عدي بن حاتم ، قال : الذي فر من الله ورسوله ! قالت : فمن علي ، فلما رجع ، ورجل إلى جنبه ، ترى أنه علي ، قال : سليه حملانا ، فسألته ، فأمر لها ، قال : فأتتني فقالت : لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه ، وأتاه فلان فأصاب منه ، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر ، فقال : [ ص: 142 ] يا عدي ، ما أفرك أن يقال لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ؟ قال : ما أفرك أن يقال : الله أكبر ، فهل شيء أكبر من الله عز وجل ؟ . قال : فأسلمت ، فرأيت وجهه استبشر ، وقال : المغضوب عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى . وذكر الحديث ، ورواه الترمذي ، من حديث سماك بن حرب ، وقال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه . قلت : وقد رواه حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن مري بن قطري ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : ( غير المغضوب عليهم ) قال : هم اليهود ( ولا الضالين ) قال : النصارى هم الضالون . وهكذا رواه سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم به . وقد روي حديث عدي هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها . وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن بديل العقيلي ، أخبرني عبد الله بن شقيق ، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى ، وهو على فرسه ، وسأله رجل من بني القين ، فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال : المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى . وقد رواه الجريري وعروة ، وخالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، فأرسلوه ، ولم يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم . ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمر ، فالله أعلم .
وقد روى ابن مردويه ، من حديث إبراهيم بن طهمان ، عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال : اليهود ، [ قال ] قلت : الضالين ، قال : النصارى . وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( غير المغضوب عليهم ) هم اليهود ، ولا الضالين ) هم النصارى .
وقال الضحاك ، وابن جريج ، عن ابن عباس : ( غير المغضوب عليهم ) اليهود ، ولا الضالين ) [ ص: 143 ] [ هم ] النصارى .
وكذلك قال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد ، وقال ابن أبي حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافا .
وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون ، الحديث المتقدم ، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة : ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ) [ البقرة : 90 ] ، وقال في المائدة قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ) [ المائدة : 60 ] ، وقال تعالى : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) [ المائدة : 78 ، 79 ] .
وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف ، قالت له اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . فقال : أنا من غضب الله أفر . وقالت له النصارى : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله فقال : لا أستطيعه . فاستمر على فطرته ، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى ، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية ؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك ، وكان منهم ورقة بن نوفل ، حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي ، رضي الله عنه
تفسير البغوى
قوله تعالى ( غير المغضوب عليهم ) يعني صراط الذين غضبت عليهم والغضب هو إرادة الانتقام من العصاة ، وغضب الله تعالى لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين .
( ولا الضالين ) أي وغير الضالين عن الهدى . وأصل الضلال الهلاك والغيبوبة يقال ضل الماء في اللبن إذا هلك وغاب . و " غير " هاهنا بمعنى لا ولا بمعنى غير ولذلك جاز العطف كما يقال فلان غير محسن ولا مجمل . فإذا كان ( غير ) بمعنى ( سوى ) فلا يجوز العطف عليها بلا ولا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد .
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين . وقيل المغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى؛ لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال : " من لعنه الله وغضب عليه " ( 60 - المائدة ) وحكم على النصارى بالضلال فقال " ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل " ( 77 - المائدة ) وقال سهل بن عبد الله : غير المغضوب ( عليهم ) بالبدعة ولا الضالين عن السنة .
تفسير المواردى
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
قوله عز وجل: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها.
أما قوله: اهدنا الصراط المستقيم ففيه تأويلان: أحدهما: معناه أرشدنا ودلنا. والثاني: معناه وفقنا، وهذا قول ابن عباس . وأما الصراط ففيه تأويلان: أحدهما: أنه السبيل المستقيم، ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
والثاني: أنه الطريق الواضح ومنه قوله تعالى: ولا تقعدوا بكل صراط توعدون [الأعراف: 86] وقال الشاعر:
... ... ... فصد عن نهج الصراط القاصد
وهو مشتق من مسترط الطعام، وهو ممره في الحلق. وفي الدعاء بهذه الهداية، ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم دعوا باستدامة الهداية، وإن كانوا قد هدوا. والثاني: معناه زدنا هداية. [ ص: 59 ]
والثالث: أنهم دعوا بها إخلاصا للرغبة، ورجاء لثواب الدعاء. واختلفوا في المراد بالصراط المستقيم، على أربعة أقاويل: أحدها: أنه كتاب الله تعالى، وهو قول علي وعبد الله، ويروى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه الإسلام، وهو قول جابر بن عبد الله، ومحمد بن الحنفية. والثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله تعالى، الذي لا عوج فيه، وهو قول ابن عباس . والرابع: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخيار أهل بيته وأصحابه، وهو قول الحسن البصري وأبي العالية الرياحي. وفي قوله تعالى: الذين أنعمت عليهم خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الملائكة. والثاني: أنهم الأنبياء. [ ص: 60 ]
والثالث: أنهم المؤمنون بالكتب السالفة. والرابع: أنهم المسلمون وهو قول وكيع. والخامس: هم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من أصحابه، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير: (صراط من أنعمت عليهم) وأما قوله: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقد روي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن المغضوب عليهم، فقال: (هم اليهود وعن الضالين فقال: (هم النصارى) . [ ص: 61 ]
وهو قول جميع المفسرين. وفي غضب الله عليهم، أربعة أقاويل: أحدها: الغضب المعروف من العباد. والثاني: أنه إرادة الانتقام، لأن أصل الغضب في اللغة هو الغلظة، وهذه الصفة لا تجوز على الله تعالى. والثالث: أن غضبه عليهم هو ذمه لهم. والرابع: أنه نوع من العقوبة سمي غضبا، كما سميت نعمه رحمة. والضلال ضد الهدى، وخص الله تعالى اليهود بالغضب، لأنهم أشد عداوة. وقرأ عمر بن الخطاب (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) .
تفسير ابى السعود
غير المغضوب عليهم ولا الضالين : صفة للموصول؛ على أنه عبارة عن إحدى الطوائف المذكورة المشهورة بالإنعام عليهم؛ وباستقامة المسلك؛ ومن ضرورة [ ص: 19 ] هذه الشهرة شهرتهم بالمغايرة لما أضيف إليه كلمة "غير"؛ من المتصفين بضدي الوصفين المذكورين؛ أعني مطلق المغضوب عليهم؛ والضالين؛ فاكتسبت بذلك تعرفا مصححا لوقوعها صفة للمعرفة؛ كما في قولك: عليك بالحركة غير السكون؛ وصفوا بذلك تكملة لما قبله؛ وإيذانا بأن السلامة مما ابتلي به أولئك نعمة جليلة في نفسها؛ أي الذين جمعوا بين النعمة المطلقة - التي هي نعمة الإيمان -؛ ونعمة السلامة من الغضب والضلال؛ وقيل: المراد بالموصول طائفة من المؤمنين؛ لا بأعيانهم؛ فيكون بمعنى النكرة؛ كذي اللام؛ إذا أريد به الجنس في ضمن بعض الأفراد؛ لا بعينه؛ وهو المسمى بـ "المعهود الذهني"؛ وبـ "المغضوب عليهم" و"الضالين": اليهود؛ والنصارى ؛ كما ورد في مسند أحمد؛ والترمذي؛ فيبقى لفظ "غير" على إبهامه نكرة؛ كمثل موصوفه؛ وأنت خبير بأن جعل الموصول عبارة عما ذكر من طائفة غير معينة مخل ببدلية ما أضيف إليه مما قبله؛ فإن مدارها كون صراط المؤمنين علما في الاستقامة مشهودا له بالاستواء على الوجه الذي تحققته فيما سلف؛ ومن البين أن ذلك من حيث إضافته وانتسابه إلى كلهم؛ لا إلى بعض مبهم منهم؛ وبهذا تبين أن لا سبيل إلى جعل "غير المغضوب عليهم" بدلا من الموصول؛ لما عرفت من أن شأن البدل أن يفيد متبوعه مزيد تأكيد وتقرير؛ وفضل إيضاح وتفسير؛ ولا ريب في أن قصارى أمر ما نحن فيه أن يكتسب مما أضيف إليه نوع تعرف مصحح لوقوعه صفة للموصول؛ وأما استحقاق أن يكون مقصودا بالنسبة؛ مفيدا لما ذكر من الفوائد فكلا؛ وقرئ بالنصب؛ على الحال؛ والعامل "أنعمت"؛ أو على المدح؛ أو على الاستثناء؛ إن فسر النعمة بما يعم القبيلين؛ والغضب هيجان النفس لإرادة الانتقام ؛ وعند إسناده إلى الله - سبحانه - يراد به غايته؛ بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسببه القريب إن أريد به إرادة الانتقام؛ وعلى مسببه البعيد إن أريد به نفس الانتقام؛ ويجوز حمل الكلام على التمثيل؛ بأن يشبه الهيئة المنتزعة من سخطه (تعالى) للعصاة؛ وإرادة الانتقام منهم لمعاصيهم؛ بما ينتزع من حال الملك إذا غضب على الذين عصوه؛ وأراد أن ينتقم منهم ويعاقبهم؛ و"عليهم" مرتفع بـ "المغضوب"؛ قائم مقام فاعله؛ والعدول عن إسناد الغضب إليه (تعالى) - كالإنعام - جرى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعم والخيرات إليه - عز وجل - دون أضدادها؛ كما في قوله (تعالى): الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين ؛ وقوله (تعالى): وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ؛ و"لا" مزيدة؛ لتأكيد ما أفاده "غير" من معنى النفي؛ كأنه قيل: لا المغضوب عليهم ولا الضالين؛ ولذلك جاز "أنا زيدا غير ضارب"؛ جواز "أنا زيدا لا ضارب"؛ وإن امتنع "أنا زيدا مثل ضارب"؛ والضلال هو العدول عن الصراط السوي؛ وقرئ: "وغير الضالين"؛ وقرئ: "ولا الضألين"؛ بالهمزة؛ على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين.
شبة
تفسير آية: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار)
♦ الآية: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾.
♦ السورة ورقم الآية: المائدة (44).
♦ الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ﴾ بيان الحكم الذي جاؤوك يستفتوك فيه ﴿ ونور ﴾ بيانٌ إنَّ أمرك حَقٌّ ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ﴾ من لدن موسى إلى عيسى وهم ﴿ الذين أسلموا ﴾ أَي: انقادوا لحكم التَّوراة ﴿ للذين هادوا ﴾ تابوا من الكفر وهم بنو إسرائيل إلى زمن عيسى ﴿ والربانيون ﴾ العلماء ﴿ والأحبار ﴾ الفقهاء ﴿ بما استحفظوا ﴾ استرعوا أَيْ: بما كُلِّفُوا حفظه من كتاب الله وقيل: العمل بما فيه وذلك حفظه ﴿ من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ أنَّه من عند الله ثمَّ خاطب اليهود فقال: ﴿ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ ﴾ في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والرَّجم ﴿ واخشون ﴾ في كتمان ذلك ﴿ ولا تشتروا بآياتي ﴾ بأحكامي وفرائضي ﴿ ثمنًا قليلًا ﴾ يريد: متاع الدُّنيا ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هم الكافرون ﴾ نزلت في مَنْ غيرَّ حكم الله من اليهود وليس في أهل الإسلام منها ومن اللتين بعدها شيءٌ.
♦ تفسير البغوي "معالم التنزيل": قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ﴾، أَيْ: أَسْلَمُوا وَانْقَادُوا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 131]، وَكَمَا قَالَ: ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 83]، وَأَرَادَ بِهِمُ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ بُعِثُوا مِنْ بَعْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَحْكُمُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَقَدْ أَسْلَمُوا لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَحَكَمُوا بِهَا، فَإِنَّ مِنَ النَّبِيِّينَ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ مِنْهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا ﴾ [الْمَائِدَةِ: 48]، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: أَرَادَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِ بِالرَّجْمِ، ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَمَا قَالَ: ﴿ إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا ﴾ [النَّحْلِ:120]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِلَّذِينَ هادُوا ﴾، قِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: فِيهَا هُدًى وَنُورٌ لِلَّذِينِ هَادَوْا ثُمَّ قَالَ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَوْضِعِهِ، وَمَعْنَاهُ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى الَّذِينَ هَادَوْا كَمَا قَالَ: ﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ﴾ [الإسراء: 7]، أي: فعليها، وكما قال: ﴿ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ﴾ [الرَّعْدِ: 25]، أَيْ: عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّذِينِ هَادَوْا وَعَلَى الَّذِينَ هَادَوْا فَحَذَفَ أَحَدَهُمَا اخْتِصَارًا. ﴿ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ ﴾، يَعْنِي: الْعُلَمَاءَ، وَاحِدُهُمْ حَبْرٌ، وَحِبْرٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ، وَهُوَ الْعَالِمُ الْمُحْكِمُ لِلشَّيْءِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عبيدة: هو من الحبر الذي يُكْتَبُ بِهِ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ مِنَ الْحِبْرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْجَمَالِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ قَدْ ذَهَبَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ»، أَيْ: حسنه وهيأته، وَمِنْهُ التَّحْبِيرُ وَهُوَ التَّحْسِينُ، فَسُمِّيَ الْعَالِمُ حِبْرًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ جَمَالِ الْعِلْمِ وَبَهَائِهِ، وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّونَ هَاهُنَا مِنَ النَّصَارَى، وَالْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا مِنَ الْيَهُودِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ ﴾، أَيِ: اسْتُودِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ، أَنَّهُ كَذَلِكَ، ﴿ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ﴾، قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الْيَهُودِ دُونَ مَنْ أَسَاءَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، وَالظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كُلُّهَا فِي الْكَافِرِينَ، وَقِيلَ: هِيَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، بَلْ إِذَا فَعَلَهُ فَهُوَ بِهِ كَافِرٌ، وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاحِدًا بِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ. وَسُئِلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَالَ: إِنَّهَا تَقَعُ عَلَى جَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا عَلَى بَعْضِهِ، وكل مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ ظَالِمٌ فَاسِقٌ، فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ الشرك. ثم لم يحكم ببعض مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا إِذَا رَدَّ نَصَّ حُكْمِ اللَّهِ عِيَانًا عَمْدًا، فَأَمَّا مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَوْ أخطأ في تأويل فلا.
شبهة والرد عليها
ابن كثير
( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( 46 ) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ( 47 ) )
يقول تعالى : " وقفينا " أي : أتبعنا ( على آثارهم ) يعني : أنبياء بني إسرائيل [ عليه السلام ] ( بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة ) أي : مؤمنا بها حاكما بما فيها ( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ) أي : هدى إلى الحق ، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات . ( ومصدقا لما بين يديه من التوراة ) أي : متبعا لها ، غير مخالف لما فيها ، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ، كما قال تعالى إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) [ آل عمران : 50 ] ; ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة .
وقوله : ( وهدى وموعظة للمتقين ) أي : وجعلنا الإنجيل ) هدى ) يهتدى به ، ( وموعظة ) أي : وزاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم ( للمتقين ) أي : لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه .
وقوله : ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ) قرئ ( وليحكم ) بالنصب على أن اللام لام كي ، أي : وآتيناه الإنجيل [ فيه هدى ونور ] ليحكم أهل ملته به في زمانهم . وقرئ : ( وليحكم ) بالجزم ؛ اللام لام الأمر ، أي : ليؤمنوا بجميع ما فيه ، وليقيموا ما أمروا به فيه ، ومما فيه البشارة ببعثة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد ، كما قال تعالى : ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) الآية [ المائدة : 68 ] وقال تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة [ والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم ] المفلحون ) [ الأعراف : 157 ] ; [ ص: 127 ] ولهذا قال هاهنا : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) أي : الخارجون عن طاعة ربهم ، المائلون إلى الباطل ، التاركون للحق . وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى وهو ظاهر السياق
الطبري
القول في تأويل قوله عز ذكره ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( 46 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وقفينا على آثارهم " ، أتبعنا . يقول : أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين أسلموا من قبلك يا محمد ، فبعثناه نبيا مصدقا لكتابنا الذي أنزلناه إلى موسى من قبله أنه حق ، وأن العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرض واجب"وآتيناه الإنجيل " ، يقول : وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه "الإنجيل " "فيه هدى ونور " يقول : في الإنجيل "هدى " ، وهو بيان ما جهله الناس من حكم الله في زمانه "ونور " ، يقول : وضياء من عمى الجهالة " ومصدقا لما بين يديه " ، يقول : أوحينا إليه ذلك وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب الله التي كان أنزلها على كل أمة أنزل إلى نبيها كتاب للعمل بما أنزل إلى نبيهم في ذلك الكتاب ، من تحليل ما حلل ، وتحريم ما حرم
"وهدى وموعظة " ، يقول : أنزلنا الإنجيل إلى عيسى مصدقا للكتب التي قبله ، وبيانا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتقين في زمان عيسى ، "وموعظة " ، لهم يقول : وزجرا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال ، وتنبيها لهم عليه .
[ ص: 374 ] و"المتقون " ، هم الذين خافوا الله وحذروا عقابه ، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم ، وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله . وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته .
شبهة والرد عليها
( قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين ( 68 ) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 69 ) )
يقول تعالى : قل يا محمد : ( يا أهل الكتاب لستم على شيء ) أي : من الدين ( حتى تقيموا التوراة والإنجيل ) أي : حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء ، وتعملوا بما فيها ومما فيها الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه ، والاقتداء بشريعته ; ولهذا قال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد في قوله : ( وما أنزل إليكم من ربكم ) يعني : القرآن العظيم .
وقوله : ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) تقدم تفسيره ( فلا تأس على القوم الكافرين ) [ ص: 156 ] أي : فلا تحزن عليهم ولا يهيدنك ذلك منهم .
ثم قال : ( إن الذين آمنوا ) وهم : المسلمون ( والذين هادوا ) وهم : حملة التوراة ( والصابئون ) - لما طال الفصل حسن العطف بالرفع . والصابئون : طائفة بين النصارى والمجوس ليس لهم دين . قاله مجاهد وعنه : بين اليهود والمجوس . وقال سعيد بن جبير : بين اليهود والنصارى وعن الحسن [ والحكم ] إنهم كالمجوس . وقال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى غير القبلة ، ويقرءون الزبور . وقال وهب بن منبه : هم قوم يعرفون الله وحده ، وليست لهم شريعة يعملون بها ، ولم يحدثوا كفرا .
وقال ابن وهب : أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال : الصابئون : قوم مما يلي العراق وهم بكوثى وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ، ويصومون كل سنة ثلاثين يوما ، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات . وقيل غير ذلك .
وأما النصارى فمعروفون ، وهم حملة الإنجيل .
والمقصود : أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم الآخر ، وهو المعاد والجزاء يوم الدين ، وعملت عملا صالحا ، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك ( فلا خوف عليهم ) فيما يستقبلونه ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ( ولا هم يحزنون ) وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة ، بما أغنى عن إعادته .ابن كثير
القرطبي
قوله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته . والذين هادوا معطوف ، وكذا والصابئون معطوف على المضمر في هادوا في قول الكسائي والأخفش . قال النحاس : سمعت الزجاج يقول : وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي : هذا خطأ من جهتين ; إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد . والجهة الأخرى أن المعطوف [ ص: 182 ] شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال ، وقال الفراء : إنما جاز الرفع في والصابئون لأن إن ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر ; والذين هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة الأمران ، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام . قال الزجاج : وسبيل ما يتبين فيه الإعراب وما لا يتبين فيه الإعراب واحد ، وقال الخليل وسيبويه : الرفع محمول على التقديم والتأخير ; والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك ، وأنشد سيبويه وهو نظيره :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
وقال ضابئ البرجمي :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقيل : إن بمعنى " نعم " فالصابئون مرتفع بالابتداء ، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه ، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر ، وقال قيس الرقيات :
بكر العواذل في الصبا ح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه
قال الأخفش : ( إنه ) بمعنى ( نعم ) ، وهذه ( الهاء ) أدخلت للسكت .
فتج القدير
قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم هذا القول إلزاما لهم وقطعا لشبهتهم; أي : أتعبدون من دون الله متجاوزين إياه ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ؟ بل هو عبد مأمور ، وما جرى على يده من النفع ، أو دفع من الضر فهو بإقدار الله له وتمكينه منه ، وأما هو فهو يعجز عن أن يملك لنفسه شيئا من ذلك فضلا عن أن يملكه لغيره ، ومن كان لا ينفع ولا يضر فكيف تتخذونه إلها وتعبدونه ، وأي سبب يقتضي ذلك ؟ والمراد هنا المسيح عليه السلام ، وقدم سبحانه الضر على النفع ; لأن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح ( والله هو السميع العليم ) أي كيف تعبدون ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ، والحال أن الله هو السميع العليم ، ومن كان كذلك فهو القادر على الضر والنفع لإحاطته بكل مسموع ومعلوم ، ومن جملة ذلك مضاركم ومنافعكم .
قوله : ( تغلوا في دينكم ) لما أبطل سبحانه جميع ما تعلقوا به من الشبه الباطلة نهاهم عن الغلو في دينهم وهو المجاوزة للحد كإثبات الإلهية لعيسى ، كما يقوله النصارى ، أو حطه عن مرتبته العلية كما يقوله اليهود فإن كل ذلك من الغلو المذموم وسلوك طريقة الإفراط أو التفريط واختيارهما على طريق الصواب .
( وغير ) منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف ; أي : غلوا غير غلو الحق ، وأما الغلو في الحق بإبلاغ كلية الجهد في البحث عنه واستخراج حقائقه فليس بمذموم ، وقيل إن النصب على الاستثناء المتصل ، وقيل على المنقطع ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وهم أسلاف أهل الكتاب من طائفتي اليهود والنصارى ; أي : قبل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم ( وأضلوا كثيرا ) من الناس وضلوا عن سواء السبيل أي عن قصدهم طريق محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة ، والمراد أن أسلافهم ضلوا من قبل البعثة وأضلوا كثيرا من الناس إذ ذاك ، وضلوا من بعد البعثة ، إما بأنفسهم ، أو جعل ضلال من أضلوه ضلالا لهم لكونهم سنوا لهم ذلك ونهجوه لهم ، وقيل : المراد بالأول : كفرهم بما يقتضيه العقل ، وبالثاني : كفرهم بما يقتضيه الشرع . قوله : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل أي لعنهم الله سبحانه على لسان داود وعيسى ابن مريم أي في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي كاعتدائهم في السبت وكفرهم بعيسى .
قوله : ذلك بما عصوا جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر ، والإشارة بذلك إلى اللعن ; أي : ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر . ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فأسند الفعل إليهم لكون فاعله من جملتهم وإن لم يفعلوه جميعا .
والمعنى : أنهم كانوا لا ينهون العاصي عن معاودة معصية قد فعلها ، أو تهيأ لفعلها ويحتمل أن [ ص: 388 ] يكون وصفهم بأنهم قد فعلوا المنكر باعتبار حالة النزول لا حالة ترك الإنكار ، وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر لأن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية ، ولهذا كان تاركه شريكا لفاعل المعصية ومستحقا لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت ، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم ، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعا قردة وخنازير إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [ ق : 37 ] ثم إن الله سبحانه قال مقبحا لعدم التناهي عن المنكر لبئس ما كانوا يفعلون أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره .
( ترى كثيرا منهم ) أي من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه يتولون الذين كفروا أي المشركين وليسوا على دينهم لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أي سولت وزينت ، أو ما قدموه لأنفسهم ليردوا عليه يوم القيامة ، والمخصوص بالذم هو ( أن سخط الله عليهم ) أي : موجب سخط الله عليهم على حذف مضاف أو هو سخط الله عليهم على حذف مبتدأ ، وقيل هو ; أي : أن سخط الله عليهم بدل من ما . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي أي : نبيهم ( وما أنزل إليه ) من الكتاب ما اتخذوهم أي : المشركين أولياء ; لأن الله سبحانه ورسوله المرسل إليهم وكتابه المنزل عليهم قد نهوهم عن ذلك ولكن كثيرا منهم فاسقون أي خارجون عن ولاية الله وعن الإيمان به وبرسوله وبكتابه .
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : لا تغلوا في دينكم يقول : لا تبتدعوا . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : كانوا مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولدا . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : وضلوا عن سواء السبيل قال : يهود . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود إلى قوله : فاسقون ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا .
وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا فلا نطول بذكرها . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود يعني في الزبور وعيسى ابن مريم يعني في الإنجيل . وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك الغفاري في الآية قال : لعنوا على لسان داود فجعلوا قردة ، وعلى لسان عيسى فجعلوا خنازير . وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله .
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة نحوه . وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا : قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار ، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عبادهم فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار ، فهم الذين ذكر الله لعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآيات .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم قال : ما أمرتهم . وأخرج ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوي الأخلاق وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا معشر المسلمين إياكم والزنا ، فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، فأما التي في الدنيا : فذهاب البهاء ، ودوام الفقر ، وقصر العمر ، وأما التي في الآخرة : فسخط الله ، وسوء الحساب ، والخلود في النار ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون .
قال ابن كثير في تفسيره : هذا الحديث ضعيف على كل حال . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء قال : المنافقون .
( قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون ( 98 ) قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ( 99 ) )
هذا تعنيف من الله تعالى لكفرة أهل الكتاب ، على عنادهم للحق ، وكفرهم بآيات الله ، وصدهم عن سبيله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله ، بما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين ، والسادة المرسلين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وما بشروا به ونوهوا ، من ذكر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الأمي الهاشمي العربي المكي ، سيد ولد آدم ، وخاتم الأنبياء ، ورسول رب الأرض والسماء . وقد توعدهم [ الله ] تعالى على ذلك بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ، ومقابلتهم الرسول المبشر بالتكذيب والجحود والعناد ، وأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون ، أي : وسيجزيهم على ذلك يوم لا ينفعهم مال ولا بنون .
الاية التالية
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( 70 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " يا أهل الكتاب " من اليهود والنصارى " لم تكفرون " يقول : لم تجحدون " بآيات الله " يعني : بما في كتاب الله الذي أنزله إليكم على ألسن أنبيائكم ، من آيه وأدلته " وأنتم تشهدون " أنه حق من عند ربكم .
وإنما هذا من الله - عز وجل - ، توبيخ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وجحودهم نبوته ، وهم يجدونه في كتبهم ، مع شهادتهم أن ما في كتبهم حق ، وأنه من عند الله ، كما : -
7219 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " يقول : تشهدون [ ص: 503 ] أن نعت محمد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابكم ، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل : " النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته " .
7220 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " يقول : تشهدون أن نعت محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل : " النبي الأمي " .
7221 - حدثني محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " " آيات الله " محمدا ، وأما " تشهدون " فيشهدون أنه الحق ، يجدونه مكتوبا عندهم .
7222 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " أن الدين عند الله الإسلام ، ليس لله دين غيره .
تفسير ابن كثير
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 69 ) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( 70 ) )
( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ( 71 ) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ( 72 ) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( 73 ) يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 74 ) )
يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين وبغيهم إياهم الإضلال ، وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم ، وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم .
ثم قال تعالى منكرا عليهم : ( ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ) أي : تعلمون صدقها وتتحققون حقها ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) أي : تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه .
( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره [ لعلهم يرجعون ] ) هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم ، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس : إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين ، ولهذا قالوا : ( لعلهم يرجعون ) .
قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى إخبارا عن اليهود بهذه الآية : يعني يهود صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وكفروا آخر النهار ، مكرا منهم ، ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : قالت طائفة من أهل الكتاب : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم ، لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا . [ وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك ] .
وقوله : ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) أي : لا تطمئنوا وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين ، فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم ، قال الله تعالى : ( قل إن الهدى هدى الله ) [ ص: 60 ] أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان ، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات ، والدلائل القاطعات ، والحجج الواضحات ، وإن كتمتم - أيها اليهود - ما بأيديكم من صفة محمد في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين .
وقوله ( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ) يقولون : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين ، فيتعلموه منكم ، ويساووكم فيه ، ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به ، أو يحاجوكم به عند الله ، أي : يتخذوه حجة عليكم مما بأيديكم ، فتقوم به عليكم الدلالة وتتركب الحجة في الدنيا والآخرة . قال الله تعالى : ( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ) أي الأمور كلها تحت تصريفه ، وهو المعطي المانع ، يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام ، ويضل من يشاء ويعمي بصره وبصيرته ، ويختم على سمعه وقلبه ، ويجعل على بصره غشاوة ، وله الحجة والحكمة .
( والله واسع عليم . يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) أي : اختصكم - أيها المؤمنون - من الفضل بما لا يحد ولا يوصف ، بما شرف به نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وهداكم به لأحمد الشرائع .
تفسير البغوي
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 69 ) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( 70 ) )
( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ( 71 ) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ( 72 ) )
قوله عز وجل ( ودت طائفة من أهل الكتاب ) نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم ، فنزلت ( ودت طائفة ) [ تمنت جماعة من أهل الكتاب ] يعني اليهود ( لو يضلونكم ) عن دينكم ويردونكم إلى الكفر ( وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون )
( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ) يعني القرآن وبيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم ( وأنتم تشهدون ) أن نعته في التوراة والإنجيل مذكور
( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ) تخلطون الإسلام باليهودية والنصرانية ، وقيل : لم تخلطون الإيمان بعيسى عليه السلام وهو الحق بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الباطل؟ وقيل : التوراة التي أنزلت على موسى بالباطل الذي حرفتموه وكتبتموه بأيديكم ( وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) أن محمدا صلى الله عليه وسلم ودينه حق
قوله تعالى ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا ) الآية قال الحسن والسدي : تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عيينة وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون [ ص: 54 ] الاعتقاد ثم اكفروا آخر النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك ، وظهر لنا كذبه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم واتهموه وقالوا : إنهم أهل الكتاب وهم أعلم منا به فيرجعون عن دينهم .
وقال مجاهد ومقاتل والكلبي هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود ، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه : آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا ، فأطلع الله تعالى رسوله على سرهم وأنزل ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ) أوله سمي وجها لأنه أحسنه وأول ما يواجه الناظر فيراه ( واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) فيشكون ويرجعون عن دينهم
تفسير الكبير المسمى البحرالمحيط
( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ) قال ابن عباس : هي التوراة والإنجيل من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به ، كما بين في قوله : ( يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن جريج . أو القرآن من جهة قولهم : ( إنما يعلمه بشر ) ( إن هذا إلا إفك ) ( أساطير الأولين ) والآيات التي أظهرها على يديه من انشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وغير ذلك . أو محمد والإسلام ، قاله قتادة ، أو ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم ، قاله ابن بحر أو كتب الله ، أو الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته ، وأمروا فيها باتباعه ، قاله أبو علي .
( وأنتم تشهدون ) جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون [ ص: 490 ] أنها آيات الله ، ومتعلق الشهادة محذوف ، يقدر على حسب تفسير الآيات ، فيقدر بما يناسب ما فسرت به ، فلذلك قال قتادة ، والسدي ، والربيع : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة .
وقيل : تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها ، وقيل : بما عليكم فيه من الحجة . وقيل : إن كتبكم حق ، ولا تتبعون ما أنزل فيها . وقيل : بصحتها إذا خلوتم . فيكون : تشهدون ، بمعنى : تقرون وتعترفون . وقال الراغب : أو عنى ما يكون من شهادتهم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم .
وقيل : تكفرون بآيات الله : تنكرون كون القرآن معجزا ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز .
تفسير فتح القدير الشوكانى
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم
[ ص: 225 ] الطائفة من أهل الكتاب هم يهود بني النضير وقريظة وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم وسيأتي ، وقيل : هم جميع أهل الكتاب ، فتكون من لبيان الجنس .
وقوله : وما يضلون إلا أنفسهم جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان ، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه . والمراد بآيات الله ما في كتبهم من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وأنتم تشهدون ما في كتبكم من ذلك ، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرون بنبوتهم ، أو المراد كتم كل الآيات عنادا وأنتم تعلمون أنها حق .
ولبس الحق بالباطل خلطه بما يتعمدونه من التحريف وأنتم تعلمون جملة حالية . قوله : وقالت طائفة من أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأشرافهم ، قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة . ووجه النهار : أوله ، وسمي وجها لأنه أحسنه قال :
وتضيء في وجه النهار منيرة كجمانة البحري سل نظامها
وهو منصوب على الظرف ، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين ، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم ، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم واعتراه الشك وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ومكن أقدامهم ، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله ، ولا تحركهم ريح المعاندين .
قوله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض ; أي : قال ذلك الرؤساء للسفلة لا تصدقوا تصديقا صحيحا إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها ، وأما غيرهم ممن قد أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعا وجه النهار واكفروا آخره ليفتتنوا ، ويكون قوله : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على هذا متعلقا بمحذوف ; أي : فعلتم ذلك لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم : يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم .
وقوله : أو يحاجوكم معطوف على أن يؤتى ; أي : لا يؤمنوا إيمانا صحيحا وتقروا بما في صدوركم إقرارا صادقا لغير من تبع دينكم ، فعلتم ذلك ودبرتموه أن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق . وقوله : إن الهدى هدى الله جملة اعتراضية .
وقال الأخفش : المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم ، فذهب إلى أنه معطوف ، وقيل : المراد لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم ; أي : لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه ; لأن إسلام من كان منهم هو الذي قتلهم غيظا وأماتهم حسرة وأسفا ، ويكون قوله : أن يؤتى على هذا متعلقا بمحذوف كالأول ، وقيل : إن قوله : أن يؤتى متعلق بقوله : لا تؤمنوا أي لا تظهروا إيمانكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم ، وقيل : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوه ، فتكون على هذا أن وما بعدها في محل رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره تصدقون بذلك ، ويجوز أن تكون في محل نصب على إضمار فعل تقديره تقرون أن يؤتى ، وقد قرأ آن يؤتى بالمد ابن كثير وابن محيصن وحميد . وقال الخليل : أن في موضع خفض والخافض محذوف .
وقال ابن جريج : المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى ، وقيل المعنى : لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا من تبع دينكم ، لئلا يكون ذلك سببا لإيمان غيرهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم . وقال الفراء : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله : إلا لمن تبع دينكم ثم قال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم : قل إن الهدى هدى الله أي : إن البيان الحق بيان الله بين أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على تقدير لا كقوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا [ النساء : 176 ] أي : لئلا تضلوا ، وأو في قوله : أو يحاجوكم بمعنى حتى ، وكذلك قال الكسائي ، وهي عند الأخفش عاطفة كما تقدم .
وقيل : إن هدى الله بدل من الهدى ، وأن يؤتى خبر إن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . وقد قيل : إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالا وذلك صحيح .
وقرأ الحسن يؤتي بكسر التاء الفوقية . وقرأ سعيد بن جبير إن يؤتى بكسر الهمزة على أنها النافية .
وقوله : يختص برحمته من يشاء قيل : هي النبوة ، وقيل : أعم منها ، وهو رد عليهم ودفع لما قالوه ودبروه . وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سفيان قال : كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى ، ويدفع هذا أن كثيرا من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصح حملها على النصارى ألبتة ، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها ، فإن الطائفة التي ودت إضلال المسلمين وكذلك الطائفة القائلة آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار هي من اليهود خاصة .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون قال : تشهدون أن نعت نبي الله محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع مثله .
وأخرجا أيضا عن السدي نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج وأنتم تشهدون على أن الدين عند الله الإسلام ليس لله دين غيره . وأخرجا عن الربيع في قوله : لم تلبسون الحق بالباطل يقول : لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام وتكتمون الحق يقول : تكتمون شأن محمد وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله . [ ص: 226 ] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم ، فأنزل الله فيهم ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل إلى قوله : والله واسع عليم وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله : وقالت طائفة الآية ، قال : كانوا يكونون معهم أول النهار ويجالسونهم ويكلمونهم ، فإذا أمسوا وحضرت الصلاة كفروا به وتركوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قال : هذا قول بعضهم لبعض .
وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله . وأخرج أيضا عن السدي نحوه .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حسدا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم ، وإرادة أن يتابعوا على دينهم . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك وسعيد بن جبير أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قال : أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد أو يحاجوكم عند ربكم يقول اليهود : فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة حتى أنزل علينا المن والسلوى ، فإن الذي أعطيتكم أفضل فقولوا : قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يقول : لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا كنبيكم حسدتموه على ذلك قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .
وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله . وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يقول : هذا الأمر الذي أنعم الله عليه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قال : قال بعضهم لبعض : لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ليحاجوكم قال : ليخاصموكم به عند ربكم فتكون لهم حجة عليكم قل إن الفضل بيد الله قال : الإسلام يختص برحمته من يشاء قال : القرآن والإسلام .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد يختص برحمته من يشاء قال : النبوة . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : رحمته الإسلام يختص بها من يشاء .
تفسير البغوى
( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ( 65 ) ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ( 67 ) )
( ولو أن أهل الكتاب آمنوا ) بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ) ( واتقوا ) الكفر ، ( لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ) [ ص: 78 ]
( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ) يعني : أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما ، ( وما أنزل إليهم من ربهم ) يعني : القرآن ، وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيل ، ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) قيل : من فوقهم هو المطر ، ومن تحت أرجلهم نبات الأرض .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأنزلت عليهم القطر وأخرجت لهم من نبات الأرض .
وقال الفراء أراد به التوسعة في الرزق كما يقال فلان في الخير من قرنه إلى قدمه ، ونظيره قوله تعالى : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " ( الأعراف ، 96 ) .
قال تعالى
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ {65})المائدة
( منهم أمة مقتصدة ) يعني : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، مقتصدة أي عادلة غير غالية ، ولا مقصرة جافية ، ومعنى الاقتصاد في اللغة : الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير .
( وكثير منهم ) كعب بن الأشرف وأصحابه ( ساء ما يعملون ) بئس شيئا عملهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : عملوا القبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية ، روي عن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل الله فقد كذب ، وهو يقول : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية . روى الحسن : أن الله تعالى لما بعث رسوله ضاق ذرعا وعرف أن من الناس من يكذبه ، فنزلت هذه الآية .
وقيل : نزلت في عيب اليهود ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام ، فقالوا أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ، فيقولون له : تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت فنزلت هذه الآية ، وأمره أن يقول لهم : " ياأهل الكتاب لستم على شيء " الآية .
وقيل : بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص ، نزلت في قصة اليهود .
وقيل : نزلت في أمر زينب بنت جحش ونكاحها .
وقيل : في الجهاد ، وذلك أن المنافقين كرهوه ، كما قال الله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت [ ص: 79 ] ( محمد ، 20 ) وكرهه بعض المؤمنين قال الله تعالى : " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " الآية ( النساء ، 70 ) ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة بعضهم ، فأنزل الله هذه الآية .
قوله تعالى : ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) قرأ أهل المدينة ( رسالاته ) ، على الجمع والباقون رسالته على التوحيد .
ومعنى الآية : إن لم تبلغ الجميع وتركت بعضه ، فما بلغت شيئا ، أي : جرمك في ترك تبليغ البعض كجرمك في ترك تبليغ الكل ، كقوله : " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا " ( النساء ، 150 - 151 ) ، أخبر أن كفرهم بالبعض محبط للإيمان بالبعض .
وقيل : بلغ ما أنزل إليك أي : أظهر تبليغه ، كقوله : " فاصدع بما تؤمر " ( الحجر ، 94 ) وإن لم تفعل : فإن لم تظهر تبليغه فما بلغت رسالته ، أمره بتبليغ ما أنزل إليه مجاهرا محتسبا صابرا ، غير خائف ، فإن أخفيت منه شيئا لخوف يلحقك فما بلغت رسالته .
( والله يعصمك من الناس ) يحفظك ويمنعك من الناس ، فإن قيل : أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته وأوذي بضروب من الأذى؟
قيل : معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك .
وقيل : نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن .
وقيل : والله يخصك بالعصمة من بين الناس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم .
( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أنا سنان بن أبي سنان الدؤلي وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قفل معه وأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي ، فقال : " إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صلتا ، فقال : من يمنعك مني؟ فقلت : الله " ثلاثا " ، ولم يعاقبه وجلس . . [ ص: 80 ]
وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأعرابي سل سيفه وقال : من يمنعك مني يا محمد قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إسماعيل بن خليل أخبرنا علي بن مسهر أنا يحيى بن سعيد أنا عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة قال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة ، إذ سمعنا صوت سلاح ، فقال : من هذا؟ قال : أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك ، فنام النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية : ( والله يعصمك من الناس ) فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : " أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله سبحانه وتعالى " .
تفسير القرطبي
قوله : ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون
قوله تعالى : ولو أن أهل الكتاب أن في موضع رفع ، وكذا ولو أنهم أقاموا التوراة . آمنوا صدقوا . واتقوا أي الشرك والمعاصي . لكفرنا عنهم ، اللام جواب [ ص: 178 ] لو . ( كفرنا ) غطينا ، وقد تقدم ، وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما ; وقد تقدم هذا المعنى في ( البقرة ) مستوفى . وما أنزل إليهم من ربهم أي القرآن ، وقيل : كتب أنبيائهم . لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم قال ابن عباس وغيره : يعني المطر والنبات ; وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب . وقيل : المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم وأكلوا أكلا متواصلا ; وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا ; ونظير هذه الآية ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات ، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال : لئن شكرتم لأزيدنكم ، ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا . المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما ، وقيل : أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا ، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين ، والله أعلم ، والاقتصاد الاعتدال في العمل ; وهو من القصد ، والقصد إتيان الشيء ; تقول : قصدته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى . ساء ما يعملون أي : بئس شيء عملوه ; كذبوا الرسل ، وحرفوا الكتب وأكلوا السحت .
ابن كثير
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو ( 64 ) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ( 66 ) )
يخبر تعالى عن اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علوا كبيرا ، بأنه بخيل . كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء ، وعبروا عن البخل [ ص: 146 ] بقولهم : ( يد الله مغلولة )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس : ( مغلولة ) أي : بخيلة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) قال : لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ولكن يقولون : بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
وكذا روي عن عكرمة وقتادة والسدي ومجاهد والضحاك وقرأ : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) [ الإسراء : 29 ] . يعني : أنه ينهى عن البخل وعن التبذير ، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله ، وعبر عن البخل بقوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) .
وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله . وقد قال عكرمة : إنها نزلت في فنحاص اليهودي عليه لعنة الله . وقد تقدم أنه الذي قال : ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) [ آل عمران : 181 ] فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له : شاس بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء )
وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه ، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه ، فقال : ( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) وهكذا وقع لهم ، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم ، كما قال تعالى : ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ] ) [ النساء : 53 - 55 ] وقال تعالى : ( ضربت عليهم الذلة [ أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ] ) الآية [ آل عمران : 112 ] .
ثم قال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) أي : بل هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه ، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له ، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه ، في ليلنا ونهارنا ، وحضرنا وسفرنا ، وفي جميع أحوالنا ، كما قال [ تعالى ] ( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) الآية [ إبراهيم : 34 ] . والآيات في هذا كثيرة ، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل :
[ ص: 147 ]
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه " قال : " وعرشه على الماء ، وفي يده الأخرى القبض ، يرفع ويخفض " : قال : قال الله تعالى : " أنفق أنفق عليك " أخرجاه في الصحيحين ، البخاري في " التوحيد " عن علي ابن المديني ، ومسلم فيه عن محمد بن رافع وكلاهما عن عبد الرزاق به .
وقوله : ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) أي : يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ، فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا ، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك ) طغيانا ) وهو : المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ) وكفرا ) أي : تكذيبا ، كما قال تعالى : ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت : 44 ] وقال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) [ الإسراء : 82 ] .
وقوله : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) يعني : أنه لا تجتمع قلوبهم ، بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائما لأنهم لا يجتمعون على حق ، وقد خالفوك وكذبوك .
وقال إبراهيم النخعي : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ) قال : الخصومات والجدال في الدين . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) أي : كلما عقدوا أسبابا يكيدونك بها ، وكلما أبرموا أمورا يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم ، ويحيق مكرهم السيئ بهم .
( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) أي : من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الإفساد في الأرض ، والله لا يحب من هذه صفته .
ثم قال جل وعلا ( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا ) أي : لو أنهم آمنوا بالله ورسوله ، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المحارم والمآثم ( لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ) أي : لأزلنا عنهم المحذور ولحصلناهم المقصود .
( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ) قال ابن عباس وغيره : يعني القرآن . ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) أي : لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء ، على ما هي عليه ، من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل ، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى [ ص: 148 ] ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ; فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتما لا محالة .
وقوله : ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( لأكلوا من فوقهم ) يعني : لأرسل [ السماء ] عليهم مدرارا ( ومن تحت أرجلهم ) يعني : يخرج من الأرض بركاتها .
وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي كما قال [ تعالى ] ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ] ) [ الأعراف : 96 ] ، وقال : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس [ ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ] ) [ الروم : 41 ] .
وقال بعضهم : معناه ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) يعني : من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء .
وقال ابن جرير : قال بعضهم : معناه : لكانوا في الخير ، كما يقول القائل : " هو في الخير من قرنه إلى قدمه " . ثم رد هذا القول لمخالفة أقوال السلف
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ) حديث علقمة ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن يرفع العلم " . فقال زياد بن لبيد : يا رسول الله ، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟! قال ثكلتك أمك يا ابن لبيد ! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله " ثم قرأ ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل )
هكذا أورده ابن أبي حاتم حديثا معلقا من أول إسناده ، مرسلا في آخره . وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلا موصولا فقال : [ ص: 149 ]
حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال : " وذاك عند ذهاب العلم " . قال : قلنا : يا رسول الله ، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال : " ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء "
وكذا رواه ابن ماجه ، عن أبى بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع بإسناده نحوه وهذا إسناد صحيح .
وقوله : ( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) كقوله تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : 159 ] ، وكقوله عن أتباع عيسى : ( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم [ وكثير منهم فاسقون ] ) [ الحديد : 27 ] . فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد ، وهو أوسط مقامات هذه الأمة ، وفوق ذلك رتبة السابقين كما في قوله تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها ) الآية [ فاطر : 32 ، 33 ] . والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة .
وقد قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن يونس الضبي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا أبو معشر ، عن يعقوب بن يزيد بن طلحة ، عن زيد بن أسلم ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة ، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة ، وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة ، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار ، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعا . واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار " . قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال : " الجماعات الجماعات " .
قال يعقوب بن يزيد كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلا فيه قرآنا : ( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ) إلى قوله تعالى : ( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) وتلا أيضا : ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : 181 ] يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه وبهذا السياق . وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين [ ص: 150 ] مروي من طرق عديدة ، وقد ذكرناه في موضع آخر . ولله الحمد والمنة .
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ( 1 ) رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ( 2 ) فيها كتب قيمة ( 3 ) )
( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ) وهم اليهود والنصارى ، ( والمشركين ) وهم عبدة الأوثان ، ( منفكين ) [ منتهين عن كفرهم وشركهم ، وقال أهل اللغة ] : زائلين منفصلين ، يقال : فككت الشيء فانفك ، أي : انفصل ، ( حتى تأتيهم البينة ) لفظه مستقبل ومعناه الماضي ، أي : حتى أتتهم البينة ، الحجة الواضحة ، يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، أتاهم بالقرآن فبين لهم [ ضلالاتهم ] وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان . فهذه الآية فيمن آمن من الفريقين ، أخبر أنهم لم ينتهوا عن الكفر حتى أتاهم الرسول فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا فأنقذهم الله من الجهل والضلالة . ثم فسر البينة فقال : ( رسول من الله يتلو ) يقرأ ( صحفا ) كتبا ، يريد ما يتضمنه الصحف من المكتوب فيها ، وهو القرآن ; لأنه كان يتلو عن ظهر قلبه لا عن [ الكتاب ] ، قوله : ( مطهرة ) من الباطل والكذب والزور . ( فيها ) أي في الصحف ، ( كتب ) يعني الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، ( قيمة ) عادلة مستقيمة غير ذات عوج .
ومن الشبهات التي يوردها أهل هذا الفهم الأعوج، دعواهم بأن الله تعالى فرق بين أهل الكتاب والمشركين، مثل قوله تعالى:
﴿إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين﴾ [البينة (1)]
وهي شبهة رد عليها شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، فقال: "فإن قيل الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله: ﴿إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين﴾ وقوله: ﴿ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين﴾ والعطف يقتضي المغايرة؟
فالجواب أن أهل الكتاب داخلون في اسم المشركين كما صرح به تعالى في قوله:
﴿وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)﴾ [التوبة] [أضواء البيان (1/91)]
فقد وصفهم الله تعالى كلهم بأنهم مشركون ونزه نفسه عن شركهم به.
قلت: ولا منافاة بين وصف الله تعالى لهم بالشرك وبين كونهم أهل كتاب، فهم مشركون في واقع الأمر، أهل كتاب في الأصل، كما أنه لا منافاة بين تفريق الله تعالى بينهم وبين المشركين من غيرهم في معاشرتنا لهم، من حيث حل طعامهم وحل نسائهم لنا، لأن هذه تتعلق بأحكام الدنيا، التي جعل الله فيها للمنافق الكافر في الدنيا ما للمسلمين، فالمنافقون أهل كتاب، وهم في نفس بكتابهم كافرون في واقع الأمر.
فهذه شبهة أوقعتهم في الخلط بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة.
فقد لا تبلغ دعوة الإسلام بعض الناس من اليهود والنصارى وغيرهم من عباد الأوثان، والذي لا تبلغه دعوة الإسلام لم تقم عليه الحجة، ومع ذلك يحكم عليه في الدنيا بأنه كافر وتطبق عليه أحكام الكفر، ولكنا لا نجرؤ على الحكم عليه في الآخرة.
فإذا مات قبل أن يدخل في الإسلام، فحكمه عند أهل السنة حكم أهل الفترة، الذين قال تعالى عنهم: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء (15)]
شبهة والرد عليها
ومن الشبه التي قد يعتمد عليها أمثال هؤلاء، في فهمهم الأعوج، قوله تعالى:
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [آل عمران (69)]
يعني أن هذا التمني إنما حصل من طائفة من أهل الكتاب وليس منهم جميعا، فغير هذه الطائفة لا يحصل منهم هذا التمني، إضافة إلى أن "مِن" هنا صالحة للتبعيض.
وهو استنباط غريب لا يصدر من طالب علم مطلع على الآيات الأخرى المتعلقة بأهل الكتاب، وعلى بيان علماء التفسير لمعانيها، وعلى الواقع الحاصل من اليهود والنصارى ضد الإسلام والمسلمين.
ولهذا نبه علماء التفسير على معنى الآية وأمثالها وحملوها على ما يجب حملها عليه.
قال الألوسي رحمه الله: "من للتبعيض، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم، وقيل لبيان الجنس" [روح المعاني (3/198)]
وهو يعني أن "من" يحتمل أن يكون معناها "التبعيض" وأن يكون "لبيان الجنس" وحملها على التبعيض المراد منه رؤساء أهل الكتاب، وبقيتهم تبع لهم كما هو معلوم...
وقال النحاس رحمه الله: "ثم قال تعالى ﴿ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم﴾ وكلهم كذا، وإنما "مِن" هاهنا لبيان الجنس، وقد قيل إن طائفة بعضهم..." [معاني القرآن (1/419]
نبه بقوله: "وكلهم كذا" على نفي الفهم السقيم الذي نحن بصدد الرد عليه، يعني أن أهل الكتاب كلهم يودون إضلال المسلمين: الزعماء وأتباعهم...
فلا يصح أن يفهم من كلمة "طائفة" أن غيرها من أهل الكتاب لا تتمنى ما تتمناه هذه الطائفة..
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ( 1 ) رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ( 2 ) فيها كتب قيمة ( 3 ) وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( 4 ) ) .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل ، والمشركون من عبدة الأوثان ( منفكين ) يقول : منتهين حتى يأتيهم هذا القرآن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( منفكين ) قال : لم يكونوا لينتهوا حتى يتبين لهم الحق .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله ( منفكين ) قال : منتهين عما هم فيه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( منفكين حتى تأتيهم البينة ) أي : هذا القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : [ ص: 540 ] ( والمشركين منفكين ) قال : لم يكونوا منتهين حتى يأتيهم ; ذلك المنفك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون ، لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم ، حتى بعث ، فلما بعث تفرقوا فيه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : معنى ذلك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد ، حتى تأتيهم البينة ، وهي إرسال الله إياه رسولا إلى خلقه ، رسول من الله . وقوله : ( منفكين ) في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر ، ولذلك صلح بغير خبر ، ولو كان بمعنى ما زال ، احتاج إلى خبر يكون تماما له ، واستؤنف قوله ( رسول من الله ) هي نكرة على البينة ، وهي معرفة ، كما قيل : ( ذو العرش المجيد فعال ) فقال : حتى يأتيهم بيان أمر محمد أنه رسول الله ، ببعثة الله إياه إليهم ، ثم ترجم عن البينة ، فقال : تلك البينة
( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) يقول : يقرأ صحفا مطهرة من الباطل
( فيها كتب قيمة ) يقول : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ، ليس فيها خطأ ؛ لأنها من عند الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .
وقوله : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) يقول : وما تفرق اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذبوا به ، إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء اليهود والنصارى البينة ، يعني : أن بيان أمر محمد أنه رسول بإرسال الله إياه إلى خلقه ، يقول : فلما بعثه الله تفرقوا فيه ، فكذب به بعضهم ، وآمن بعضهم ، وقد كانوا قبل أن يبعث غير مفترقين فيه أنه نبي .
تفسير الظلال الاستاذ سيد قطب
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1) رسول من الله يتلو صحفا مطهرة (2) فيها كتب قيمة (3) وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة (4) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (5) إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية (6) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية (7) جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه (8)
هذه السورة معدودة في المصحف وفي أكثر الروايات أنها مدنية. وقد وردت بعض الروايات بمكيتها. ومع رجحان مدنيتها من ناحية الرواية، ومن ناحية أسلوب التعبير التقريري، فإن كونها مكية لا يمكن استبعاده. وذكر الزكاة فيها وذكر أهل الكتاب لا يعتبر قرينة مانعة. فقد ورد ذكر أهل الكتاب في بعض السور المقطوع بمكيتها. وكان في مكة بعض أهل الكتاب الذين آمنوا، وبعضهم لم يؤمنوا. كما أن نصارى نجران وفدوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة وآمنوا كما هو معروف. وورد ذكر الزكاة كذلك في سور مكية.
والسورة تعرض عدة حقائق تاريخية وإيمانية في أسلوب تقريري هو الذي يرجح أنها مدنية إلى جانب الروايات القائلة بهذا.
والحقيقة الأولى هي أن بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل [ ص: 3948 ] الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة:
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة: رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة ..
والحقيقة الثانية: أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالة ولا عن غموض فيه، إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البينة: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
والحقيقة الثالثة: أن الدين في أصله واحد، وقواعده بسيطة واضحة، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة .
والحقيقة الرابعة: أن الذين كفروا بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية. ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بينا:
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها. أولئك هم شر البرية. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه ..
وهذه الحقائق الأربع ذات قيمة في إدراك دور العقيدة الإسلامية ودور الرسالة الأخيرة. وفي التصور الإيماني كذلك. نفصلها فيما يلي:
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة: رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة .
لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة. كان الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة، ومنهج جديد، وحركة جديدة. وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها، أو مشركون في الجزيرة العربية وفي خارجها سواء.
وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة: رسول من الله يتلو صحفا مطهرة .. مطهرة من الشرك والكفر فيها كتب قيمة .. والكتاب يطلق على الموضوع، كما يقال كتاب الطهارة وكتاب الصلاة، وكتاب القدر، وكتاب القيامة، وهذه الصحف المطهرة - وهي هذا القرآن - فيها كتب قيمة أي موضوعات وحقائق قيمة..
ومن ثم جاءت هذه الرسالة في إبانها، وجاء هذا الرسول في وقته، وجاءت هذه الصحف وما فيها من كتب وحقائق وموضوعات لتحدث في الأرض كلها حدثا لا تصلح الأرض إلا به. فأما كيف كانت الأرض في حاجة إلى هذه الرسالة وإلى هذا الرسول فنكتفي في بيانه باقتطاف لمحات كاشفة من الكتاب القيم الذي كتبه الرجل المسلم "السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي" بعنوان: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين".. وهو أوضح وأخصر ما قرأناه في موضوعه:
جاء في الفصل الأول من الباب الأول:
[ ص: 3949 ] " كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف. فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون. وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها. وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح. وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب، فضلا عن البيوت، فضلا عن البلاد. وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة، ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فرارا بدينهم من الفتن، وضنا بأنفسهم، أو رغبة إلى الدعة والسكون، وفرارا من تكاليف الحياة وجدها، أو فشلا في كفاح الدين والسياسة، والروح والمادة ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم، وأكل أموال الناس بالباطل"...
"أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين ولعبة المجرمين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها; وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام، وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعا صافيا من الدين السماوي، ولا نظاما ثابتا من الحكم البشري"..
هذه اللمحة السريعة تصور في إجمال حالة البشرية والديانات قبيل البعثة المحمدية. وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين في مواضع شتى..
من ذلك قوله عن اليهود والنصارى: وقالت اليهود عزير ابن الله. وقالت النصارى المسيح ابن الله ..
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ..
وقوله عن اليهود: وقالت اليهود: يد الله مغلولة. غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء .
وقوله عن النصارى: لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم .. لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة .
وقوله عن المشركين: قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين .. وغيرها كثير..
وكان وراء هذا الكفر ما وراءه من الشر والانحطاط والشقاق والخراب الذي عم أرجاء الأرض ... "وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء".
ومن ثم اقتضت رحمة الله بالبشرية إرسال رسول من عنده يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة. وما كان [ ص: 3950 ] الذين كفروا من المشركين ومن الذين أوتوا الكتاب ليتحولوا عن ذلك الشر والفساد إلا ببعثة هذا الرسول المنقذ الهادي المبين ...
ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد. إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم:
تفسير قاعدة من لم يكفر الكافر فهو كافر
هى قاعدة معروفة مشهورة، وهي الناقض الثالث من نواقض الإسلام التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى حيث قال: (الثالث: من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر).
وتلك القاعده العظيمه ليست من كلام شيخ الاسلام المجدد فحسب بل سبقه الكثير من جهابذة العلماء كسفيان ابن عيينة وأبو خيثمة مصعب بن سعيد وأبو بكر بن عياش وسلمة بن شبيب النيسابوري وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي و أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم الكثير
-يقول الإمام برهان الدين البقاعي رحمه الله :
" فإنه لم يأت نبي إلا بتكفير المشركين - كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله « الأنبياء أولاد علات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد » ".اهـ تفسير نظم الدرر (ج2،ص446)
-قال الخطيب البغدادي ( 392 هـ - 463 هـ) :" قال أبو سلمة: من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر".اهـ كتاب تاريخ بغداد .
ملحوظة 1 :- أبو سلمة صاحب الكلام المتقدم نشأ في خير القرون الأولى، وتوفى سنة (246هـ )، وهو سلمة بن شيب النيسابوري النسائي محدث أهل مكة وأحد كبار الأئمة ، نقل المزي عنه أنه صادق، وحكى أبو نعيم أنه ثقة، و ذكره بن حبان فى كتاب الثقات، وحدث عنه الإمام مسلم وأبو حاتم وأصحاب السنن .
ملحوظة 2 :- نقل عنه كلامه المتقدم في تكفير من لم يكفر الكافر غير واحد من الأئمة كالإمام المزي (742هـ) في تهذيب الكمال، وابن حجر العسقلاني ( 852 هـ) في التهذيب، وابن عساكر (571هـ ) في تاريخه، وكذا بن الدمياطي( 705 هـ ) في كتابه المستفاد من ذيل تاريخ بغداد .
- قال ابن الوزير في الروض الباسم(2/508):-
((ولا شك أن من شك في كفر عابد الأصنام وجب تكفيره ومن لم يكفره كفر ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضرورة )).
وقال البقاعي في مصرع التصوف - (1 / 253)
[ .. ولا يسع أحدا أن يقول أنا واقف أو ساكت لا أثبت ولا أنفي لأن ذلك يقتضي الكفر لأن الكافر من أنكر ما علم من الدين بالضرورة ومن شك في كفر مثل هذا كفر ولهذا قال ابن المقري في مختصر الروضة من شك في اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر وحكى القاضي عياض في الباب الثاني من القسم الرابع من الشفاء الإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك قال القاضي أبو بكر لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم فمن وقف في ذلك فقد كذب النص أو التوقيف أو شك فيه والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر انتهى , وقال الإمام حافظ الدين النسفي في كتابه العمدة في أصول الدين التوقف باطل لاقتضائه الشك والشك فيما يفترض اعتقاده كالإنكار ]
-وقال في نظم الدرر - (8 / 267)
"فلعنة الله عليه أي [ ابن الفارض ] وعلى من تبعه أو شك في كفره أو توقف في لعنه بعد ما نثر من الضلال الذي سعر به البلاد , وأردى كثيراً من العباد."
-قال النووي في "روضة الطالبين": "مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى، أَوْ شَكَّ فِي تَكْفِيرِهِمْ، أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَاعْتَقَدَهُ".
-يقول سفيان بن عيينة ، (198هـ)
( القرآن كلام الله عز وجل من قال مخلوق فهو كافر ، ومن شك في كفره فهو كافر )أهـ.رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في السنة رقم(25) بسند صحيح .
-وكذا نقل مثل هذا القول عن أبي خيثمة مصعب بن سعيد المصيفي كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( 2/256) رقم (430) للإمام الحافظ أبي القاسم هبة الله اللالكائي (418هـ).
-وأيضا عن أبي بكر بن عياش المقريء ( 194هـ ) الثقة العابد ، فقد سئل كما في السنة للالكائي أيضا ( 2/250) رقم (412) عمن يقول القرآن مخلوق ؟ فقال : ( كافر ومن لم يقل إنه كافر فهو كافر ) وإسناده صحيح.
-وكذا سلمة بن شبيب النيسابوري ( 247هـ) محدث أهل مكة،قال ابن حجر في التهذيب (2/303): قال داود بن الحسين البيهقي ؛بلغني أن الحلواني قال : لا أكفر من وقف في القرآن ، قال داود : فسألت سلمة بن شبيب عن الحلواني ،فقال ( يرمى في الحُش ،من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر ). وذكر ذلك الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( 7/365).
قلت:والحلواني هو: أبو محمد الحلواني الحسين بن علي بن محمد الهذلي الخلال
-ويقول أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي ( 264هـ):( من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة ، ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر)
-وقال مثله تماما أيضا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي (277هـ) وروى ذلك كله اللالكائي في السنة ( 2/176)
- جاء فى رد الامام احمد رحمه الله على رسالة مسرد بن مسرهد البصري في جوابه عن القرآن قوله : ( فهو كلام الله غير مخلوق ، فمن قال : مخلوق ، فهو كافر بالله العظيم ، ومن لم يكفره فهو كافر . ) أهـ طبقات الحنابلة لأبي يعلى الحنبلي (1/315) .
- يقول الامام أحمد بن حنبل : والقرآن كلام الله تكلم به ، ليس بمخلوق ومن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول ، ومن زعم أنّ ألفاظنا به ، وتلاوتنا له مخلوقة ، والقرآن كلام الله فهو جهمي ، ومن لم يكفر هؤلاء القوم فهو مثلهم. " العقيدة ،الامام أحمد بن حنبل برواية عبدوس العطار ، المطبوع مع العقيدة برواية أبي بكر الخلاّل ص 79 ط. دار قتيبة / دمشق سنة 1408هـ - 1988م .
-ويقول أيضاً : وما في اللوح المحفوظ وما في المصحف وتلاوة الناس وكيفما وُصف ، فهو كلام الله غير مخلوق ، فمن قال مخلوق ، فهو كافر بالله العظيم ، ومن لم يكفره فهو كافر ... الخ .
العقيدة للإمام أحمد بن حنبل برواية مسدد بن مسرهد المطبوع برواية الخلال ص 60 .
إلى أنْ قال : وأما الجهمية ، فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم أنهم قالوا : إنّ الجهمية افترقت ثلاث فرق ، فقالت طائفة منهم القرآن كلام الله وهو مخلوق ، وقالت طائفة : القرآن كلام الله وسكتت ، وهي الواقفة الملعونة ، وقالت طائفة منهم : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ، فهؤلاء كلهم جهمية كفار يُستتابون ، فإن تابوا وإلا قتلوا. العقيدة للإمام أحمد بن حنبل ص 61 .
-قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: سمعت أبي ـ رحمه الله يقول: من قال: القرآن مخلوق، فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله عز وجل، وفيه أسماء الله عز وجل. اهـ.
وعدَّ ابن القيم هذا في المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد، فقال في إعلام الموقعين: أما الإمام أحمد رحمة الله عليه ورضوانه: فإنه حلف على عدة مسائل من فتاويه... سئل: من قال القرآن مخلوق، كافر؟ فقال: إي والله. اهـ.
بل قد حكم الإمام أحمد على البلد التي يظهر فيها القول بخلق القرآن ونحو ذلك من البدع المكفرة بأنها دار كفر، قال أبو بكر الخلال: كان يقول: الدار إذا ظهر فيها القول بخلق القرآن والقدر وما يجري مجرى ذلك، فهي دار كفر اهـ.
ولم ينفرد الإمام أحمد بذلك، فقد عدّ اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: أكثر من خمسمائة وخمسين نفساً من التابعين وتابعيهم، كلّهم قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر، ثم قال: ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة, لكني اختصرت وحذفت الأسانيد للاختصار. اهـ.
-وقال الإمام السجزي في رسالته في الرد على من أنكر الحرف والصوت: واتفق المنتمون إلى السّنة بأجمعهم على أنه غير مخلوق، وأنّ القائل بخلقه كافر، فأكثرهم قال: إنه كافر كفراً ينقل عن الملة، ومنهم من قال: هو كافر بقول غير الحق في هذه المسألة، والصحيح الأوّل، لأن من قال: إنه مخلوق، صار منكراً لصفة من صفات ذات الله عز وجل، ومنكر الصفة كمنكر الذات، فكفره كفر جحود لا غير. اهـ.
- قال ابن المقري في الروضة نقلاً عن كتاب الإعلام بقواطع الإسلام :
" أن من لم يكفر طائفة ابن عربي كان كمن لم يكفر اليهود والنصارى "
كتاب الإعلام بقواطع الإسلام لابن حجر الهيثمي ص 379 ط دار المعرفة
-قال شيخ الإسلام في الإقناع ( إن من دعا ميتا وإن كان من الخلفاء الراشدين فهو كافر وإن من شك في كفره فهو كافر) وراجع الغنية عن الكلام وأهله (ص: 73) لحمد بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن خطاب، أَبُو سُلَيْمَان الخطّابي البُسْتي الأديب. [المتوفى: 388 هـ] وهو في الدين الخالص لمحمد صديق حسن خان في الدين الخالص (4/97 ط - دار المدني) وفي صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (1/ 142) لمحمد بشير السَّهسواني الهندي (1252 ـ 1326)
-يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :
من سب الصحابة أو أحداً منهم أو اقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره . (الصارم المسلول ص 591 ط – دار الجيل )
-وقال شيخ الإسلام بن تيميه أيضاً: ( من دعا علي ابن أبي طالب فقد كفر ومن شك في كفره فقد كفر) أ . هـ (الرسالة السنية )
-وقال شيخ الإسلام بن تيميه :
( وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا (يقصد الصحابة رضي الله عنهم ) بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره لأنه مكذب لما قصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين ) أ . هـ (الصارم المسلول :ص591- 592 ط دار الجيل .)
-ويقول رحمه الله في الرد الاقوم على مافى كتاب فصوص الحكم
(...وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى وفيها من التناقض من جنس ما فى أقوال النصارى ولهذا يقولون بالحلول تارة وبالإتحاد أخرى وبالوحدة تارة فإنه مذهب متناقض فى نفسه ولهذا يلبسون على من لم يفهمه فهذا كله كفر باطنا وظاهرا بإجماع كل مسلم ومن شك فى كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم فهو كافر كمن يشك فى كفر اليهود والنصارى والمشركين) (ج2\ص368).
-ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه :
( وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر ويسلك هذه الحقيقة ، ولا يفرق بين المؤمنين المتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله وبين من عصى الله ورسوله من الكفار والفجار فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى ) ( كتاب الفتاوى ص 67 )
-وقال رحمه الله في موضع اخر - (3 / 2)
[ وقال محمد بن سحنون: "أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله له وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر". ] وانظر الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض - (2 / 215)
-فإذا كان من سب النبي أو تنقصه كان كافراً قطعاً أجمع أهل العلم على كفره، بل وعلى كفر من لم يكفره، فكيف بمن سب الله تعالى جبار السموات والأرض، فصرف شيئاً من العبادة التي لا تصلح إلا له إلى أحد من خلقه ممن هم عبيد له، والشرك بالله مسبَّه لله تبارك وتعالى بغير شك، وهو أعظم الظلم وأكبر الكبائر. وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله في ذلك: إذا كان من رفع رجلاً ـ كمسيلمة الكذاب ـ إلى رتبة النبي كفر وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابياً أو نبياً إلى رتبة جبار السموات والأرض سبحان الله ما أعظم شأنه ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:59] أ.هـ رسالة كشف الشبهات في التوحيد. شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
وعنه ايضا في مجموع الفتاوى في معرض كلامه عن الحلوليين والاتحاديين - (2 / 368)
[ وَلِهَذَا يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ تَارَةً وَبِالِاتِّحَادِ أُخْرَى وَبِالْوَحْدَةِ تَارَةً فَإِنَّهُ مَذْهَبٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا يَلْبِسُونَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ . فَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِإِجْمَاعِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمَنْ شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ فَهُوَ كَافِرٌ كَمَنْ يَشُكُّ فِي كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ"
-وقال الشيخ ابن تيمية فى مجموع الفتاوى ( 35/98) عن الدروز كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون بل من شك فى كفرهم فهو كافر مثلهم لاهم بمنزلة اهل الكتاب ولا المشركين بل هم الكفرة الضالون فلا يباح اكل طعامهم .)
- يقول القاضي عياض في كتابه الشفا :
( ولهذا نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة الإسلام من الملل أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك )أ.هـ(كتاب الشفا – جـ 2 ص610)
ولعل قائل يقول أن هذا القول يعني تكفير من لم يكفر اليهود أو النصارى دون غيرهم، وهو فهم قاصر من قائل ذلك، وإلا فإن كلام أهل العلم و القاضي عياض في هذا الموضع أعم من ذلك بالقطع. ويدلك على ذلك أيضاً قوله في الموضع الآخر: قال محمد بن سحنون: أجمع العلماء أن شاتم النبي المنتقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله. وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر أ.هـ
كما يصرح في موضع آخر بأن ذلك لا يقتصر على تكفير اليهود والنصارى فقط، بل كل من فارق المسلمين من مرتد أو غيره؛ قال رحمه الله: وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود وكل من فارق دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم أو شك. قال القاضي أبو بكر: لأن التوقيف ـ أي النص ـ والإجماع على كفرهم، فمن وقف في ذلك ـ أي شك ـ فقد كذَّب النص أو توقف أو شك فيه، والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر أ.هـ
-ويقول القاضي عياض أيضاً :
(وقال نحو هذا القول الجاحظ وثمامة في أن كثيراً من العامة والنساء والبله ومقلدة النصارى واليهود وغيرهم لا حجة لله عليهم .. إذ لم تكن لهم طباع يمكن معه الاستدلال وقد نحا الغزالي قريباً من هذا المنحى في كتاب التفرقة ، وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك) أ هـ (ص602 ص 603 الشفا الجزء الثاني
وكلام الجاحظ هو نفسه كلام أصحاب العذر اليوم إذ يقولون أن عوام الناس المشركين الجهلة اليوم لا حجة لله عليهم فهم معذورون فيما يرتكبونه من أعمال الكفر والإشراك وأن الله عز وجل لم يكفرهم ولا رسوله لأنهم جهال لم تقم عليهم الحجة ... فسبحان الله كيف تشابهت قلوبهم وهل ننتظر أن يرسل الله إليهم رسولاً أم ينزل عليهم ملائكته مبلغين معلمين ؟! ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾(الأنعام :149)
-قال القاضي عياض نقلاً عن القاضي أبو بكر
قال القاضي أبو بكر لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف أو شك فيه . والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر ) أ .هـ(الشفا جـ2 ص 602، 603 )
قال الكشميرى فى اكفار الملحدين فى ضروريات الدين ( 58ط الدار الكتب العملية ) ناقلا من شرح الشفا للخفاجى وكذلك شرح ملا على القارى :- ( ولهذا اى للقول بكفر من خالف ظاهر النصوص والمجمع عليه يكفر من لم يكفر من دان بغير ملة الاسلام من الملل او وقف فيهم ــــــ اى توقف وتردد فى تكفيرهم او شك فى كفرهم او صحح مذهبهم وان اظهر الاسلام واعتقده واعتقد ابطال كل مذهب سواه فهو اى من لم يكفر من دان بغير ملة الاسلام ـــــ وما بعده ــــــــ كافر بإظهار ما اظهر من خلاف ذلك اى ما يخالف الاسلام لانه طعن فى الدين وتكذيب لما ورد عنه من خلافه ) أ .هـ.
-قال الملطي في كتاب "التنبيه – صـ 33" :
{.. وجميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر ، لأن الشاك في الكفر لا إيمان له ، لأنه لا يعرف كفراً من إيمان ؛ فليس بين الأمة كلها ، المعتزلة ومن دونهم ، خلاف أن الشاك في الكافر كافر}
-يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب
( والذي يبين ذلك من قصة الردة أن المرتدين افترقوا في ردتهم فمنهم من كذب النبي ورجعوا إلى عبادة الأوثان وقالوا : لو كان نبياً ما مات !!.
ومنهم من ثبت على الشهادة ولكن أقر بنبوة مسيلمة ظناً أن النبي أشركه في النبوة لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا له بذلك فصدقهم كثير من الناس ومع هذا أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك ومن شك في ردتهم فهو كافر . ) ( مجموعة التوحيد )
- ويقول محمد بن عبد الوهاب : (وما أحسن ما قال واحد من البوادي لما قدم علينا وسمع شيئاً من الإسلام قال : أشهد أننا كفار يعني هو وجميع البوادي ، وأشهد أن المطوع الذي يسمينا أهل إسلام أنه كافر . )(مجموعة التوحيد ص 37 )
-يقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن أبا بطين :
" فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة ، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلا عذر له بعد ذلك بالجهل ، وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم ، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون ، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم." أ .هـ
-قال الشيخ أبو بطين رحمه الله تعالى :
( وقد أجمع المسلمون : على كُفر من لم يُكفر اليهود والنصارى ، أو شك في كُفرهم ، ونحنُ نتيقن أن أكثرهم جُهال ) .اهـ
-جاء في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - (1 / 659)
قال ابو بطين رحمه الله تعالى [ وأمّا مَن يقول إنّ مَن تكلّم بالشّهادتين ما يجوز تكفيره، فقائل هذا القول لا بدّ أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله في مثل مَن أنكر البعث أو شكّ فيه مع إتيانه بالشّهادتين، أو أنكر نبوّة أحد من الأنبياء الذين سَمّاهم الله تعالى في كتابه.أو قال: الزّنا حلال، أو اللّواط، أو الرّبا، ونحو ذلك ، أو أنكر مشروعية الأذان أو الإقامة أو أنكر الوتر أو السّواك، ونحو ذلك، فلا أظنّه يتوقّف في كفر هؤلاء ومثالهم إلاّ أن يكابر أو يعاند، فإن كابر أو عاند فقال لا يضرّ شيء من ذلك ولا يكفر به مَن أتى بالشّهادتين فلا شكّ في كفره ولا في كفر مَن شكّ في كفره؛ لأنّه بقوله هذا مكذِّب لله ولرسوله ولجميع المسلمين . والأدلّة على كفره ظاهره من الكتاب والسّنة والإجماع.... قال القاضي عياض في كتابه: (الشّفاء): (فصل: في بيان ما هو من المقالات كفر) إلى أن قال:
والفصل البيّن في هذا أنّ كلّ مقالةٍ صرحت بنفي الرّبوبية أو الوحدانية أو عبادة غير الله أو مع الله فهي كفر إلى أن قال:
والذين أشركوا بعبادة الأوثان أو أحد الملائكة أو الشّياطين أو الشّمس أو النّجوم أو النّار أو أحد غير الله من مشركي العرب أو أهل الهند أو السّودان أو غيرهم إلى أن قال: أو أن ثَمَّ للعالم صانعاً سوى الله أو مدبِّراً فذلك كلّه كفر بإجماع المسلمين". فانظر حكاية إجماع المسلمين على كفر مَن عبد غير الله من الملائكة وغيرهم، وهذا ظاهر ولله الحمد.
ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، فمَن قال إنّ مَن أتى بالشّهادتين وصلّى وصام لا يجوز تكفيره أو عبد غير الله، فهذا كافر، ومَن شكّ في كفره فهو كافر. إلى أن قال:على هذا القول: فهو مكذِّب لله ولرسوله وللإجماع القطعي الذي لا يستريب فيه مَن له أدنى نظر في كلام العلماء ]
-قال ابوبطين فى مجموعة الرسائل والمسائل (1/655) ) : ( ان فعل مشركى الزمان عند القبور من دعاء اهل القبور وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والذبح والنذر لهم ، وقولنا ان هذا شرك اكبر وان من فعله فهوكافر ، والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور كفار بلا شك ، وقول الجهال انكم تكفرون المسلمين فهذا ما عرف الاسلام ولا التوحيد والظاهر عدم صحة إسلام هذا القائل فإن من لم ينكر هذه الامور التى يفعلها المشركون اليوم ولا يراها شيئا فليس بمسلم ) أ .هـ.
-سُئِل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف ،
عمَّن لم يُكفر الدولة ـ أي الدولة التركية آنذاك ـ ومن جرَّهم على المسلمين ، واختار ولايتهم ، وأنه يلزمهم الجهاد معه ، والآخر لا يرى ذلك كله ، بل الدولة ومن جرهم بُغاة ، ولا يحل منهم إلاَّ ما يحل من البُغاة… ؟
فأجاب : ( من لم يعرف كُفر الدولة ، ولم يُفرق بينهم وبين البُغاة من المسلمين ، لم يعرف معنى لا إله إلاَّ الله .
فإن اعتقد مع ذلك : أن الدولة مسلمون ، فهو أشد وأعظم ، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله ، وأشرك به ، ومن جرَّهم وأعانهم على المسلمين بأي إعانة ، فهي ردَّة صريحة ) .اهـ
-سئل الشيخ حسن والشيخ عبد الله أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمهم الله جميعاً) عن رجل دخل هذا الدين وأحبه وأحب أهله ، ولكنه لا يعادي المشركين ، أو عاداهم ولم يكفرهم ؟
فأجابا : ( بأن هذا لا يكون مسلماً إلا إذا عرف التوحيد ودان به ، وعمل بموجبه وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وأطاعه فيما نهى عنه وأمر به وآمن بما جاء به .فمن قال لا أعادي المشركين ، أو عاداهم ولم يكفرهم ، فهو غير مسلم وهو ممن قال الله فيهم :
﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا . أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً ﴾ (النساء:150-151)(مجموعة التوحيد ص 284 كذلك أنظر الدرر السنية ص 111 جـ8)
-وقال الشيخ عبد الله ، والشيخ إبراهيم أبناء الشيخ عبد اللطيف ، والشيخ سليمان بن سحمان ، في الإجابة على سؤال ورد عليهم :
( لا تصح إمامة من لا يُكفِّر الجهمية والقبوريين ، أو يشك في تكفيرهم ، وهذه المسألة من أوضح الواضحات ، عند طلبة العلم…
ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره ـ يعنون بِشر المريسي ـ وكذلك القبوريون لا يشك في كفرهم ، من شمَّ رائحة الإيمان ) الدرر السنية 10 / 436
-جاء فيـ / ( الدرر السنية جـ 2 ص 176 )
-( وقد أجمع علماء الإسلام أن من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم أو اعتقد أن نظامهم أهدى وأفضل من هدى الله ورسوله أو أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فهو كافر لعدم استسلامه وانقياده انقياداً كاملاً لله عز وجل .)
-وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله في معرض شرحه لكلام الشيخ ابن القيم (رحمه الله) في باب التوبة ، قال :
( يتبين لك أن الإسلام ، لا يستقيم إلا بمعاداة أهل الشرك ، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعل فعلهم .) (مجموعة التوحيد ص 35 )
-يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في أرجوزته
لم يسلكوا منهج التوحيد بل فتنوا لكل ذي حدث في اللحد مقبور
هذا يطــــــوف وهــــذا في تقـربه يأتي إلـيه بمنـحور ومـنـذور
وذا به مستغـيث في شـدائـده يرجوا الإجـابة في تيسير معسور
فاحكم بتكفير شخص لا يكفرهم
فالحـق شمس وهذا غير معذور
- وقال أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحفاده وتلاميذه رحمهم الله عند كلامهم على الأمور التي توجب الجهاد :
(مما يوجب الجهاد لمن اتصف به ، عدم تكفير المشركين ، أو الشك في كفرهم ، فإن ذلك من نواقض الإسلام ومبطلاته ، فمن اتصف به فقد كفر ، وحل دمه وماله ، ووجب قتاله حتى يكفّر المشركين ، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه ))
فعلّق عصمة المال والدم بأمرين :
الأول : قول لا إله إلا الله ، الثاني : الكفر بما يعبد من دون الله .
فلا يعصم دم العبد وماله حتى يأتي بهذين الأمرين ، الأول قوله : لا إله إلا الله ، والمراد معناها لامجرد لفظها ، ومعناها هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة ، الأمر الثاني : الكفر بما يعبد من دون الله ، والمراد بذلك تكفير المشركين ، والبراءة منهم ، ومما يعبدون مع الله )الدرر السنية ص(291/9) .
- قال بعض علماء نجد رحمهم الله تعالى (فإن الذي لايكفّر المشركين ، غير مصدق بالقرآن ، فإن القرآن قد كفّر المشركين ، وأمر بتكفيرهم وعداوتهم وقتالهم) الدرر السنية ص(291/9) .
أن تكفير المشركين مجمع عليه إجماعاً قطعياً يعلم بالضرورة من دين الإسلام وبتصوّر ما جاءت به الرسل
-قال الشيخ عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله تعالى (وبالجملة : فأدلة تحريم دعاء الصالحين من دون الله لايمكن حصرها ولا تستقصى - إلى أن قال - ونقول : اجتمعت الأمة على تحريم هذا - أي دعاء الصالحين - وعلى كفر فاعله إجماعا ضرورياً ، يعرف بالضرورة من دين الإسلام ، وبتصوّر ما جاءت به الرسل) منهاج التأسيس ص(77) .
- وقال أيضا (حكى شيخ الإسلام الإجماع على كفر من جعل بينه وبين الله وسائط ، يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم ، بل حكى في ردِّه على النصارى ، أن النبوات اتفقت على تكفير من دعا الأموات والغائبين) مصباح الظلام ص(447)
-وقال الشيخ إسحاق آل الشيخ (دعاء أهل القبور وسؤالهم والاستغاثة بهم ليست من هذا الباب ولم يتنازع في هذه المسألة المسلمون ، بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفِّر كما حكاه شيخ الإسلام وجعلها مما لاخلاف في التكفير بها) رسالة تكفير المعيّن بتحقيق الخالدي ص(39) .
-وقال الشيخ سليمان بن سحمان (وأما الجهمية وعبّاد القبور فلم يختلف العلماء في تكفيرهم) كشف الأوهام والالتباس ص(76)
- قال الشيخ سليمان بن سحمان مقررا ومؤكدا ماذكره حسين بن حسن آل الشيخ ، حيث قال حسين آل الشيخ :
(قول بعض العلماء من لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم فهو كافر ، فهذا حق ونحن نعتقده بحمد الله ، لكن هذا فيمن أجمع عليه علماء الإسلام على كفره ،)
قال الشيخ سليمان بن سحمان:
فالجواب أن يقال :(من لم يكفر المشركين ، أو شك في كفرهم فهو كافر ، وهذا حق كما أقررت به ، وهو قول أهل السنة والجماعة) . انتهى كلامه كشف الأوهام والالتباس ص (72) .
- قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : ( واما قول من يقول ان من تكلم بالشهادتين ما يجوز تكفيره وقائل هذا القول لابد ان يتناقض ولا يمكن طرد قوله في مثل من أنكر البعث أو شك فيه مع إتيانه بالشهادتين او انكر نبوة احد من الانبياء الذين سماهم الله فى كتابه او قال الزنا حلال او نحو ذلك ، فلا اظن يتوقف فى كفر هؤلاء الا من يكابر ويعاند ،فإن كابر وعاندوقال لا يضر شيء من ذلك ولا يكفر به من اتى بالشهادتين فلا شك فى كفره ولا كفر من شك فى كفره لانه بقوله هذا مكذب لله ولرسوله ولاجماع المسلمين والأدلة على ذلك ظاهرة بالكتاب والسنة والإجماع )ا.هـ.فانظر رحمك الله كيف حكم بــ :
1-كفر من انكر نبوة احد من الانبياء او قال الزنا حلال او نحو ذلك .
2- ثم حكم بكفر من قال لا يضره شيىء ما دام قد تكلم بالشهادتين قال (فلا شك فى كفره ) اى الذى لم يكفر الكافر الاول .
3- ثم حكم بكفر من لم يكفر الثانى الذى قال لا يضر الكافر الاول شيىء . قال ( ولا كفر من شك فى كفره )
-وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله :
" وفي السنن أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حكم بكفر أهل مسجد في الكوفة قال واحد إنما مسيلمة على حق فيما قال وسكت الباقون فأفتى بكفرهم جميعاً، فلا يأمن الإنسان أن يكون قد صدر منه كلمة كفر أو سمعها وسكت عليها ونحو ذلك فالحذر الحذر أيها العاقلون والتوبة التوبة أيها الغافلون فإن الفتنة حصلت في أصل الدين لا في فروعه ولا في الدنيا ." (الدرر السنية جـ27 ص127)
-ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في شرحه رسالة جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب أصل الدين وقاعدته أمران قال : ومن لم يكفر من كفره القرآن فقد خالف ما جاءت به الرسل من التوحيد"(مجموعة التوحيد)
-وقد سئل الشيخ سليمان ابن عبد الله رحمه الله : عن أهل بلد مرتدين أو بادية وهم بنو عم ، ويجئ لهم ذكر عند الأمراء فيتسبب بالدفع عنهم حمية دنيوية إما بطرح نكال أو دفن نقائض المسلمين أو يشير بكف المسلمين عنهم هل يكون هذا موالاة نفاق ؟ أو يصير كفراً ؟ فمما قال " : وإن كان يقول : أقول غيرهم كفار ، ولا أقول هم كفار ، فهذا حكم منه بإسلامهم إذ لا واسطة بين الكفر والإسلام ، فإن لم يكونوا كفاراً فهم مسلمون وحينئذ فمن سمى الكفر إسلاماً . أو سمى الكفار مسلمين فهو كافر ، فيكون هذا كافراً ) أ . هـ( مجموعة التوحيد الرسالة السادسة – أوثق عرى الإيمان .ص 109-121)
- قال اللالكائي: "إذا رأيناهم (أي أئمة السلف من الصحابة والتابعين) قد أجمعوا على شيء؛ عولنا عليه، ومن أنكروا قوله أو ردوا عليه بدعته أو كفروه؛ حكمنا به واعتقدناه، ولم يزل من لدن رسول الله إلى يومنا هذا قوم يحفظون هذه الطريقة ويتدينون بها، وإنما هلك من حاد عن هذه الطريقة لجهله طرق الاتباع"اهـ (المقدمة 1/29).
- قال القاضى عياض فى الشفا (2/216/مكتبة الصفا ) (وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب قاعدة من قواعد الشرع وما عرف يقينا بالنقل المتواتر من فعل الرسول ووقع الاجماع المتصل عليه )ا.هـ
وقال القاضى عياض (اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصاً في نفسه، أو نسبه، أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له، أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر، ومنكر من القول وزوراً، أو عيَّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لدية، وهذا كله إجماع من الصحابة وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا ... لا نعلم خلافاً في استباحة دمه بين علماءِ الأمصار وسلف الأمة وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره) اهـ الشفا ج2 ص932
ويقول ابن عابدين - بعد أن ذكر أقوال بعض العلماء في تكفير ساب الرسول صلى الله عليه وسلم -: " وهذه نقول معتضدة بدليلها وهو الإجماع، ولا عبرة بما أشار إليه ابن حزم الظاهري من الخلاف في تكفير المستخف به(7)، فإنه شيء لا يعرف لأحد من العلماء، ومن استقرأ سير الصحابة تحقق إجماعهم على ذلك، فإنه نقل عنهم في قضايا مختلفة منتشرة يستفيض نقلها ولم ينكره أحد، وما حكي عن بعض الفقهاء من أنه إذا لم يستحل لا يكفر زلة عظيمة، وخطأ عظيم لا يثبت عن أحد من العلماء المعتبرين، ولا يقوم عليه دليل صحيح، فأما الدليل على كفره فالكتاب والسنة والإجماع والقياس" اهـ نواقض الايمان القولية والعملية ج1 ص147
قول القاضي عياض – رحمه الله :
( و ذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضه للتأويل ، و فارق في ذلك فرق الأمة ، إذ أجمعوا سواه على أن الحق في أصول الدين واحد ، و المخطئ فيه آثم عاص فاسق . و إنما الخلاف في تكفيره"
نقل عن صاحب كتاب الإقناع وشرحه :
قال : ( فمن أشرك بالله , أو جحد ربوبيته , أو وحدانيته , أو صفة من صفاته , أو اتخذ له صاحبة أو ولداً , كفر بالله , أو ادعى النبوة , أو صدق من ادعاها , أو جحد نبياً , أو جحد كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه , أو جحد الملائكة , أو واحدا منهم , أو جحد البعث , أو سب الله , أو رسوله , أو استهزأ بالله , أو كتبه , أو رسله , كفر بالله العظيم .
قال الشيخ تقي الدين : ( أو كان مبغضاً لرسول الله , أو لما جاء به الرسول , وقال : أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم , ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً ) . اهـ
أو سجد لصنم , أو شمس أو قمر , أو أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين , أو وُجدَ منه امتهان للقرآن , أو طلب تناقضه , أو دعوى أنه مختلف , أو مختلق , أو مقدور على مثله , أو إسقاط لحرمته , أو أنكر الإسلام , أو الشهادتين , أو أحدهما كفر .
لا من حكى كفراً سمعه ولا يعتقده , أو نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها"[2] ".
ومن أطلق الشارع كفره , فهو كفر لا يخرج به الإسلام , كدعواهم لغير أبيهم , وكمن أتى عرافاً فصدقه بما يقول , فهو تشديد , وكفر لا يخرج به عن الإسلام , وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام , مثل أن يقول : هو يهودي , أو نصراني , أو مجوسي , أو برئ من الإسلام , أو القرآن , أو النبي e , أو يعبد الصليب , على ما ذكروه في الإيمان , أو قذف النبي e , أو أمه , أو اعتقد قدم العالم , أو حدوث الصانع جل وعلا , أو سخر بوعد الله , أو بوعيده , أو لم يُكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى واليهود , أو شك في كفرهم , أو صحح مذهبهم , أو قال قولا ً يتوصل به إلى تضليل الأمة الإسلامية , أو قال قولا يتوصل به إلى تكفير الصحابة , فهو كافر بالله العظيم ) . اهـ الإقناع وشرحه ج2 ص211 ـ 213
مما سبق يتبين كثرة القائلين بصحة هذه القاعدة , وأن الإجماع منعقد على العمل بهذه القاعدة , سواء كان الكفر أصلياً , أو طارئاً بشرط أن يكون مجمعاً عليه , والمكلف على علم به .
قال صاحب ( الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية – جـ 1 ص154) :
( وقد أجمع الصحابة أن من أقر بنبوة مُسيّلمة الكذاب أنه مرتد ولو بقي ينطق الشهادتين , وأن من يشك في ردته فهو كافر ) . اهـ ( وهذا القول في كتاب مجموعة التوحيد أيضاً ) ص67.
إجراء الأحكام على مقتضى الظاهر هو ما عليه أهل السنة والجماعة ، ونذكر بعض ما قاله أهل العلم فى ذلك باختصار :
1- قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا}(346) قال الشوكاني رحمه الله: (والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل هما بمعنى الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمناً والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية) (347).
وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله تعالى: {فتبينوا} ولو كان لا يقتل إذا قالها للتثبت معنى، إلى أن يقول: (و إن من أظهر التوحيد و الإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك) (348).
2- واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، و أن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله" والشاهد من الحديث قوله (وحسابهم على الله) قال ابن رجب: (وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، فإن كان صادقاً أدخله الله بذلك الجنة، و إن كان كاذباً فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار (350). وق-ال الحافظ في الفتح: (أي أمر سرائرهم.. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر) (351)وقال الإمام البغوي: (وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضاً إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، و أن من أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره، ولو وجد مختون فيما بين قتلى غلف، عزل عنهم في المدفن، ولو وجد لقيط في بلد المسلمين حكم بإسلامه) (352).
3- واستدلوا أيضاً بقصة أسامة رضي الله عنه المشهورة قال: " بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة (353)فأدركت رجلاً فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: أقال لا إله إلا الله وقتلته قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ"(354)، (355)
والحديث فيه زجر شديد وتحذير من الإقدام على قتل من تلفظ بالتوحيد وتحذير صريح من تجاوز الظاهر والحكم على ما في القلب دون بينة، قال النووي - رحمه الله-: (وقوله - صلى الله عليه وسلم- أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ الفاعل في قوله أقالها هو القلب(356)، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال أفلا شققت عن قلبه لتنظر، هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنت لست بقادر على هذا فاقتصر على اللسان فحسب ولا تطلب غيره) (357)، وقال أيضاً في تعليقه على قوله - صلى الله عليه وسلم-: "أفلا شققت عن قلبه؟" (وفيه دليل على القاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام فيها بالظاهر والله يتولى السرائر) (358)
4- ومن الأحاديث العظيمة في هذا الباب حديث جارية معاوية بن الحكم السلمي لما سأل رسول الله - صلى الله علي-ه وسلم-: " أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة"(359).
قال شيخ الإسلام في تعليقه على هذا الحديث (...فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا، هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة، ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعتقها فإنها مؤمنة" أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار) (360)، (لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة) (361)
ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم- يعامل المنافقين على ظواهرهم مع علمه بنفاق كثير منهم ليقرر هذا الأصل العظيم (فهم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ويصومون، ويحجون ويغزون والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم.. ولم يحكم النبي -صلى الله عليه وسلم - في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي سلول وهو من أشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبد الله وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، و إذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين.. لأن الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة، لا على المحبة التي في القلوب، فإنه لو علق بذلك لم تمكن معرفته، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، وهو ما أظهروه من موالاة المؤمنين.. وكذلك كانوا في الحقوق والحدود كسائر المسلمين) (362) (وهكذا كان حكمه - صلى الله عليه وسلم- في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم لا يستحل منها شيئاً إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم) (363)ومع ذلك (يجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب، فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمناً في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة) اهـ نواقض الايمان الاعتقادية ج1 151ص152
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – قال : « إِن ناسا كانوا يُؤخَذون بالوحي في عهدِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ، وإِن الوحي قَدِ انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أَظْهَرَ لَنَا خَيرا أَمِنَّاهُ ، وقَرَّبْنَاهُ ، وليس لنا من سَرِيرتِهِ شيء، الله يُحَاسِبُهُ في سريرته ، ومَنْ أَظْهَرَ لنا سُوءا لم نَأْمَنْهُ ، ولم نُصَدِّقه ، وإن قال : إِنَّ سريرتَه حسنة ». أخرجه البخاري.
قال ابن بطال " قال أبو الحسن بن القابسى: ينبغى لكل من سمع هذا الحديث أن يحفظه ويتأدب به. والمرفوع من هذا الحديث إخبار عمر عما كان الناس يؤخذون به على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقية الخبر بيان لما يستعمله الناس بعد انقطاع الوحى بوفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - .
وفى هذا الحديث من الفقه: أن من ظهر منه الخير فهو العدل الذى تجب قبول شهادته.
واختلفوا فى ذلك فقال النخعى: العدل: الذى لم تظهر له ريبة. وهو قول أحمد وإسحاق.
وقال أبو عبيد: من ضيع شيئًا مما أمره الله به أو ركب شيئًا مما نهى الله عنه، فليس بعدل؛ لقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض..} [الأحزاب: 72] الآية، والأمانة جميع الفرائض اللازمة واللازم تركها."ج15 ص23
قال شيخ الاسلام " ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبين آبائهم واسترقاقهم إذا كان آبائهم محاربين وغير ذلك - صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به
ومن هنا قال من قال : إن هذا الحديث - هو قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] كان قبل أن تنزل الأحكام كما ذكره أبوعبيد عن محمد بن الحسن فأما إذا عرف أن كونهم ولدوا عى الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله إذا قاتلوا الكفار فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار فحكم الدار الآخرة غير حكام الدار الدنيا"اهـ
الدرء ج8 ص432 ـ433
قال الشاطبى " وإنما كلف العباد الحكم على الظاهر من القول والفعل وتولى الله الثواب على السرائر دون خلقه وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله الى قوله فطبع على قلوبهم"اهـ الموافقات ج1 ص295
وقال أيضا " وأحكام الله ورسوله تدل على أن ليس لأحد أن يحكم على أحد إلا بظاهر والظاهر ما أقر به أو ما قامت به بينة تثبت عليه " الموافقات
ج1 ص260
وقال رخمه الله تعالى " ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة فى الشرع دليلا على ما فى الباطن فإن كان الظاهر منخرما حكم على الباطن بذلك أو مستقيما حكم على الباطن بذلك أيضا وهو أصل عام فى الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات بل الإلتفات إليها من هذا الوجه نافع فى جملة الشريعة جدا والأدلة على صحته كثيرة جدا وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي وعدالة العدل وجرحة المجرح وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق إلى غير ذلك من الأمور بل هو كلية التشريع وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة "اهـ
الموافقات ج1 ص233
وقال أيضا " فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به فى الأحكام خصوصا وبالنسبة إلى الاعتقاد فى الغير عموما أيضا فإن سيد البشر صلى الله عيله وسلم مع إعلامه بالوحي يجرى الأمور على ظواهرها فى المنافقين وغيرهم وإن علم بواطن أحوالهم ولم يكن ذلك بمخرجة عن جريان الظواهر على ما جرت عليه "اهـ
الموافقات ج2 ص271
المرتد اذا اظهر ردته
قال صاحب كتاب : "مطاعن فى عقوبتى الزانى والمرتد"
2- ويدل أيضاً على قتل المرتد قوله تعالي : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً 0 ملعونين أينما ثقفوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تقتيلاً 0 سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً } ( 3 ) 0(3)
قال الحسن البصري : أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق ، فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه وأسرُّوه . ( 4 )(4)
وهذا يعني أن المنافق حين يظهر كفره ، ويطعن في دين الله - عز وجل -، يُأْخَذْ ويُقْتَلْ عقاباً له .
والسؤال هنا : هل هناك شك في أن المرتد عن دين الإسلام منافق ؟ يسعى إلي تفريق جماعة المسلمين ، وإفساد دينهم عليهم ؟ ! 0
فالمرتد كما سبق وأن قلنا : إن كانت ردته بينه وبين نفسه , دون أن ينشر ذلك بين الناس ، ويثير الشكوك في نفوسهم , فلا يستطيع أحد أن يتعرض له بسوء ، فالله وحده هو المطلع على ما تُخفِي الصدور .
أما إذا أظهر المرتد عن دين الإسلام ردته ، وأثار الشكوك في نفوس المسلمين بالنطق بكلمة الكفر، وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة .
كان حاله في هذه الحالة حال المنافق الذي يُظهر ما في قلبه من الكفر والنفاق ؛ وجهاده واجب عملاً بقوله تعالي :
3- { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جنهم وبئس المصير0 0
يحلفون ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله من فضله فإن يتوبوا يكُ خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من وليِّ ولا نصير } ( 1 ) 0(1)
ووجه الدليل في الآيتين : أن الله أمر رسوله ( بجهاد المنافقين , كما أمره بجهاد الكافرين وأن جهادهم يمكن إذا ظهر منهم ؛ من القول أو الفعل ما يُوجب العقوبة ، فإنه ما لم يظهر منهم شئ البتة لم يكن لنا سبيل عليهم 0
فإذا ظهر منهم كلمة الكفر كما قال الله - عز وجل - { وكفروا بعد إسلامهم } فجهادهم بالقتل وهو العذاب الأليم الذي توعدهم به - عز وجل - في الدنيا بقوله : { وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة } 0
4- وهذه الآية نظير قوله تعالي { قل هل تربصُّون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا }
قال أهل التفسير ( أو بأيدينا ) بالقتل : إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم ، وهو كما قالوا ؛ لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم ( 3 )(1)0
فهل بعد كل هذه الآيات الكريمات شك , في أن المرتد إذا أظهر كلمة الكفر , مثل المنافق , جزاؤه القتل بصريح القرآن الكريم ؟ ! 0
أما إذا كان المرتد ردته بينه وبين نفسه ، ولم يعلن بها ، فحكمه في هذه الحالة , حكم المنافق المعلوم نفاقه بعلامات المنافقين , غير أنه لم يعلن كلمة الكفر , فيعامل بحسب الظاهر من إيمانه ، ويحصن به من القتل .
وهذا من حكم عدم قتل النبي ( بعض المنافقين مع علمه بنفاقهم !
أن أجري عليهم أحكام الدنيا على حسب الظاهر من إيمانهم والله يتولى السرائر وهذا ما أكده النبي ( في مواقف عدة منها : ـ
قوله لأسامة بن زيد - رضي الله عنه - لما أخبر النبي ( أنه قتل من قال لا إله إلاّالله خوفاً من السيف ، فقال له النبي أفلا شققت عن قلبه حتى تعلمأقالها أم لا )) فما زال يكررها علىَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ .
وفي رواية قال له رسول الله فكيف تصنع بلا إله إلاَّ الله , إذا جاءت يوم
القيامة ؟ قال يا رسول الله ! استغفر لي 0 قال : وكيف تفعل بلا إله إلاَّ الله إذاجاءت يوم القيامة ؟ قال فجعل لا يزيده على أن يقول , كيف تصنع بلا إله إلاَّ الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ )
وقوله ( للذي ساره في قتل رجل من المنافقين : (( أليس يشهد أن لا إله إلاالله ؟ قال الأنصاري بلي يا رسول الله ؛ ولا شهادة له 0 قال رسول الله أليس يشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال بلي يا رسول الله ! قال :أليس يصلي ؟قال بلي يارسول الله ؛ ولا صلاة له 0 فقال رسول الله ((أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم )) وقوله ( لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - لما استأذن في قتل رجل أنكر قسمته ( فقال رسول الله: لا 0 لعله أن يكون يصلي : قال خالد : كم من مصلي قول بلسانه ماليس في قلبه ! فقال رسول الله ( إني لم أُومر أن أُنَّقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم )) والأحاديث في ذلك كثيرة .
فإعراض رسول الله ( عن قتل بعض المنافقين مع علمه بنفاقهم وقبول علانيتهم لوجهين :
الوجه الأول : أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة ، بل كانوا
يظهرون الإسلام ، ونفاقهم كان يعرف بعلامات منها, الكلمة يسمعها الرجل المؤمن
فينقلها إلي النبي ( فيحلفون بالله أنهم ما قالوا ؛ كما قال الله - عز وجل -: { يحلفون بالله
ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم }
وقوله تعالي : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . اتخذوا إيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون } ( 5 ) 0(1)
فدلت هذه الآيات أن المنافقين كانوا يُرضون المؤمنين بالأيمان الكاذبة ، وينكروا أنهم كفروا ، ويحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر . وذلك دليل علي أنهم يُقتلون إذا ثبت عليهم ذلك بالبينة .
وكذلك المرتد إذا أظهر ردته , ونطق بكلمة الكفر , وثبتت عليه البينة ؛ قُتِلْ 0
الوجه الثاني : أنه ( كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر من استبقائهم ، وقد بين ذلك رسول الله ( حين استأذنه عمر في قتل رجل من المنافقين أنكر قسمته ( فقال : - صلى الله عليه وسلم - معاذ الله ! أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي )
فإنه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لأوشك أن يظن الظانَّ أنه إنما قتلهم لأغراض وأحقاد وبالجملة كان ترك قتلهم مع كونهم كفاراً ، لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية ، فإذا ظهر استحقوا القتل بصريح القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، والسيرة العطرة التي ورد فيها إهدار دماء بعضهم ." اهـ مطاعن فى عقوبتى الزانى والمرتد ج1 43 ـ 46
هنا وقفة مهمة الى الذين يلهثون وراء العلمانيين واللا دينين وينسبون للإسلام ماليس منة
فتوي لفضيلةالشيخ سليمان العلوان
تفريغ فتوى الشيخ العلامة سليمان العلوان حول قاعدة:
"من لم يكفر الكافر فهو كافر"
الأخ يسأل عن قاعدة من لم يكفر الكافر فهو كافر
متى يكفر من لم يكفر الكافر
وهذا فيه تفصيل والأقسام في ذلك سبعة
القسم الأول:
من لم يكفر اليهود والنصارى والمشركين سواء كان بنوعهم أو بأعيانهم ، فهذا كافر لتكذيبه بالمقطوع به
القسم الثاني:
من لم يكفر المنتقل إلى ملة أصلية كرجل مسلم انتقل إلى يهودية أو إلى نصرانية أو إلى مجوسية ولم يكفره هذا
فهذا كافر لأنه مكذب بالمقطوع به
القسم الثالث:
من أتى بناقض مجمع عليه وقامت عليه الحجة وانتفت عنه الشبهة ولم يكفره رجل لا لشبهة ولا لتأويل,
وإنما كان هذا لهوى أو لعدم مبالاة
فهذا أيضاً كفر في من لم يكفر الكافر فهو كافر
القسم الرابع:
من لم يكفر المرتكب لناقض لشبهة قامت عنده إما لاعتقاده أن الحجة ما قامت عليه أو أن الشروط ما توفرت فيه فهذا لا يكفر بالإجماع
القسم الخامس:
من لم يكفر الكافر لبدعة عنده (كالمرجي الذي يقيد نواقض الإسلام بالاعتقاد أو الجحود أو الإستحلال)
فهو لم يكفر الكافر لشبهة البدعة عنده
فهذا لا يكفر بالإتفاق,
لأنه لو كفر هذا
لكفرت جميع طوائف أهل البدع من المرجئة والأشاعرة والكرامية و السالمية وجميع هذه الطوائف
ولا قائل بهذا القول
القسم السادس:
من لم يكفر المختلف فيه سواء من اانوع أو من العين كتارك الصلاة والساحر ونحوه
وهذا له حالتان ؛ الأولى:
أن لا يكفره لأنه عمل من الأعمال
(وهذا قول أهل البدع) لا يكفر قولا واحدا
الحالة الثانية:
أن لا يكفر بحكم الموازنة بين الأدلة فهذا لا يكفر بالإتفاق
ولأنه لو كفر هؤلاء لكفر الأئمة الاربعة وكفر أكابر علماء السلف كالزهري وغيره..ولا قائل به
ومن ثم اختلف أئمة السلف في الخوارج
اختلف أئمة السلف في المعتزلة
اختلف أئمة السلف في الأعيان كالحجاج مثلاً
ولم يكن بعضهم يكفر بعضاً بل ولا كان بعضهم يبدع بعضا...
لأن هذا نتيجة تأويل ونتيجة اجتهاد
فهؤلاء الصحابة اختلفوا في كفر الخوارج...
ولا قال الذي يكفرونهم للذين لا يكفرونهم أنتم مرجئة ...
ولا قال الذين لا يكفرونهم للذين يكفرونهم أنتم خوارج
...
وهذا الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومجاهد كانوا يكفرون الحجاج بن يوسف ويرونه مرتداً
وكان محمد ابن سيرين وطائفة لا يرون كفره
ومع ذلك لم يكن يضلل بعضهم بعضاً وما كفر بعضهم بعضا
لأن هذا كان عن اجتهاد ولأن كل واحد يعتقد هل توفرت فيه الأدلة المقتضية لكفره أو الآخر يقول
فمن ثم اختلفوا وما كفر بعضهم بعضاً بل ما بدع بعضهم بعضا بل ما هجر بعضهم بعضا فضلاً عن التبديع فضلاً عن التكفير
القسم السابع:
أن يكون ذلك في الطوائف المتفق عليها ثم ينازع شخص في أعيانهم لا في نوعهم
يعني يقول أنا أوافق على تكفير النوع لكن ما أوافق على تكفير العين
والإجماع قد انعقد على النوع ولم ينعقد على العين
فهذا أيضاً لا يكفر لأنه ما كذب بمقطوع به ومن شروط التكفير أن يكذب بمقطوع به
والمقطوع به النوع دون العين
أما لو كذب بالمقطوع حتى بالعين كما تقدم في القسم الثاني وتقدم في القسم الثالث فإنه يكفر لأن ذلك مقطوع به وهذا غير مقطوع به
فهذه سبعة أقسام في مسألة من لم يكفر الكافر فهو كافر
رابط الفتوى الصوتية لمن أراد الرجوع لها:
سؤال حول قاعدة من لم يكفر الكافر فهو كافر
m.youtube.com/watch?v=KOpr7BKca0M
سؤل مهم
هل نحن كمسملين عند النصارى كفار أم مؤمنين وسندخل الجنة تعالوا لنرى
التكفير فى عقيدة النصارى وكتابهم :
اولا كتابهم المقدس :
سفر يشوع بن سيراخ 16: 7
في مجمع الخطاة تتقد النار وفي الامة الكافرة يضطرم الغضب
سفر المكابيين الأول 7: 9
هو والكيمس الكافر وقد قلده الكهنوت وامره ان ينتقم من بني اسرائيل
سفر المكابيين الثاني 8: 14
وباع اخرون كل ما كان باقيا لهم وكانوا يبتهلون الى الرب ان ينقذهم من نكانور الكافر الذي باعهم قبل الملتقى
سفر المكابيين الثاني 13: 4
ولكن ملك الملوك هيج سخط انطيوكس على ذلك الكافر فان ليسياس اشربه ان الرجل كانهو السبب في تلك النوازل باسرها فامر بان يذهب به الى بيرية ليقتل على رعادة البلاد
رسالة بولس الثانيه لاهل كورنثوس 3/4_4
الترجمه البوليسيه : ( فانما هو محجوب عن الهالكين , اولئك الكفره الذين اعمى اله هذا الدهر ابصارهم )
رسالة بولس الثانيه لاهل كورنثوس 3/4_4
الترجمة اليسوعيه دار المشرق : ( فاذا كانت بشارتنا لا تزال محجوبه فانما هى محجوبه عن السائرين فى طريق الهلاك , عن غير المؤمنين الذين اعمى بصائرهم اله هذه الدنيا )
رسالة بطرس الاولى 18/4 :
ترجمة العهد الجديد يونانى عربى بين السطور اعداد الاباء بولس الفغالى وانطوان عوكر ويوسف فخرى ونعمة الله الخورى صــ1097 :
( اذا الابرار يخلصون بعد جهد , فما هو مصير الكافر الخاطىء؟ )
تفسير القس أنطونيوس فكرى لهذا النص :
(( وكلمة الجهد تشير ايضا لجهاد الانسان البار فى صلواته ..وبكل الجهد هذا وذاك نخلص , فمن لا يجاهد بل يعيش فى فجر وخطيه ماذا سيكون مصيره , اذا فالافضل لنا ان نحتمل الآلام من ان نشترك مع الفاجر والخاطىء وننكر المسيح ))
http://st-takla.org/pub_Bible-Interp...hapter-04.html
نرى هنا بكل وضوح ان من يجاهد ويصلى ويؤمن بالمسيح طبعا حسب اعتقادهم انه الله والاله المتجسد الذى صلب عنا ( يخلص ) ومن هو غير ذلك ( فاجر ) و ( خاطى) و ( ليس له خلاص ) وذلك بسبب ( انكاره للمسيح ) وطبعا نحن كمسلمين او كل من هو غير مسيحى ينكر المسيح الاله المتجسد الاقنوم الثانى الذى فدانا على الصليب اى نحن ( فجره لن نخلص ) حسب كلام القس
رسالة يوحنا الثانية اصحاح 1
9 كُلُّ مَنْ تَعَدَّى وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ فَلَيْسَلَهُ اللهُ. وَمَنْ يَثْبُتْ فِي تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ فَهذَا لَهُ الآبُوَالابْنُ جَمِيعًا.
10 إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ، وَلاَ يَجِيءُ بِهذَا التَّعْلِيمِ، فَلاَتَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ
تفسير القس انطونيوس فكرى لهذه النصوص :
يقول : (( يقول الاباء : " لا يستطيع أحد أن يكون له الله ابا ما دامت الكنيسه ليست أما له , " والكنيسه رمزها فلك نوح , فهل خلص أحد خارج الفلك . , (كل من تعدى ) = كل من خرج عن وصية المسيح وتعليمه وعن حق الانجيل فى كبرياء أو فلسفه , مثل الهراطقه المعجبون بأرآئهم , (فليس له الله ) = أى يفقد نصيبه الالهى تماما ولا يكون له الله ابا أو الها يعطيه ميراثا سماويا (...) ))
ويقول فى تفسير العدد 10 :
(( أى نرفض تعليم الهراطقه وأشخاصهم فلربما حين يشعرون بالعزله يتوبون , ولأن الاندماج معهم هو نوع من الاعتراف بصحة مسلكهم مع ان مسلكهم شرير , وهنا يبدوا ظاهريا ان كلام يوحنا ضد المحبه ولكن نفهم ان محبة يوحنا هى محبه بحسب الحق والكنيسه تعود تعطيهم محبه (لو) تابوا أما المصرين على هرطقاتهم فالكنيسه تحرمهم ))
http://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-02-New-Testament/Father-Antonious-Fekry/24-Resalet-Youhana-2/Tafseer-Resalat-Yo7ana-2__01-Chapter-01.html
تعليقى على كلام القس :
هذا الكلام تكفير صريح لمن هو غير مسيحى حيث نراه يقول ويذكر كلام ( الأبآء) انهم يقولون
" لا يستطيع أحد أن يكون له الله ابا ما دامت الكنيسه ليست أما له " نحن كمسلمين ليست الكنيسه اما لنا ولا نعترف بها وكذلك اى انسان غير مسيحى فهذا تكفير صريح واعتراف من القس ومن كلام الأبآء بكفر غير المسيحيين وخاصة جملة (أى يفقد نصيبه الالهى تماما ولا يكون له الله ابا أو الها يعطيه ميراثا سماويا )
فكما هو معروف ان المؤمنون يطلق عليهم اولاد الله مجازا كما وصف ذلك الكتاب المقدس فى غير موضع :
(الفانديك)(انجيل يوحنا)(Jn-1-12)(واما كل الذين قبلوه فاعطاهم سلطانا ان يصيروا اولاد الله اي المؤمنون باسمه.)
[ Mk:15:39 ] ولما رأى قائد المئة الواقف مقابله انه صرخ هكذا واسلم الروح قال حقا كان هذا الانسان ابن الله.
Luk 23:47 فلما رأى قائد المئة ما كان مجد الله قائلا: «بالحقيقة كان هذا الإنسان بارا!»
فكلام القس وقوله (أى يفقد نصيبه الالهى تماما ولا يكون له الله ابا ) يدل ان من لا يؤمن بتعاليم المسيح التى يؤمنون بها ومن ليس الكنيسه اما له ( اى غير مسيحى ) فليس مؤمنا اى كافر حسب هذه النصوص وحسب كلامه
ثانيا : تكفير المخالف فى العقيده من المراجع المسيحيه وأقوال الاباء :
كتاب " المقاله الثانيه ضد الاريوسيين" القديس اثناسيوس ص62 :
( لذا فان حسب افكار الكافرين يكون الابن الذى خلق لكى يكون أداه لالزوم له )
كتاب "انت المسيح ابن الله الحى", للانبا غريغوريوس اسقف عام الدراسات العليا اللاهوتيه والثقافه القبطيه والبحث العلمى ص 8 :
( أما شهود يهوه فهم غير مسيحيين وعلى هذا يجمع والارثوذكس الكاثوليك والبروتستانت, ان مذهب شهود يهوه مذهب يهودى متطرف وصهيونى ايضا,يبرأ منه جميع المسيحيين ويعتبرونه هرطقه واضلوله وكفرا)
ميخائيل مكسي إسكندر: 120 سؤالاً وجواباً عن أسرار الكنيسة السَّبعة, الجزء الثاني, مكتبة المحبَّة – صـ31, 32.
[سـ118: لماذا يجب تعميد الأطفال, رغم أنَّهم يكونون قاصرين عن إدراك الإيمان كما يقول البعض ؟ (1) ليس هُناك نصّ كتابي يمنع تعميد الأطفال, بل يلزم تعميدهم في أقرب وقت مُمكن, خوفاً من مرضهم وموتهم فجأة. (2) وأنَّهم دون المعمودية لن يدخلوا ملكوت السَّموات. فهي ضرورية للجميع, بدون استثناء, للخلاص. (مر 16 : 16), (يو 3 :5). (3) إنَّ الأطفال يرثون الخطية الجدّية مثل الكِبار تماماً. (4) من التَّشابه بين الختان والمعمودية. وكان الخِتان علامة للدُّخُول في عهد مع الله, وأنَّ الطِّفل كان يُختن في اليوم الثّامن من ميلاده, والخِتان رمز للمعمودية (كو 2 : 11-13).]
البابا شنودة الثالث: اللاهوت المُقارن (الجزء الأول), الكُلِّيّة الإكليريكية للأقباط الأرثوذكس – صـ33. [البروتستانت لا يُعمِّدون الأطفال، إصراراً على لزوم الإيمان قبل المعمودية, واعتماداً على قول الرب: «مَن آمن واعتمد خلص» ( مر 16: 16), وأيضاً اعتماداً على أن الطِّفل لا يُدرك ماذا يحدث في المعمودية. فكيف تتمّ المعمودية بدون إيمان وبدون إدراك ؟! هذا رأيهم. أما نحن فنُصرّ على معمودية الأطفال للأسباب الآتية: حِرصاً منّا على أبدية هؤلاء الأطفال، لأنَّ الرَّب يقول: «إن كان أحد لا يولد من الماء والرُّوح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 3: 5), فكيف يُمكن أن نمنع عنهم العِماد فنُعرِّضهم لهذا الحُكم الإلهي الذى لم يحدث أنَّ الرَّب استثنى منه الأطفال حينما قال هذا.]
اى اننا نحن المسلمين وغيرنا من غير المسيحيين نعتبر ( لن ندخل الملكوت وليس لنا خلاص ) أى كفار وغير مؤمنين لاننا لم نعمّد وورثنا خطية أدم كما يقول الكاتب
النصارى يكفرون من هو على غير مذهبهم ويكفرون من هو على غير دينهم :
الأنبا مرقس المسلم كافر واي مسيحي يعتقد غير ذلك فليس مسيحياً
http://www.youtube.com/watch?v=mGY8H6mEpec
الأنبا شنوده : لا يجوز الترحم على غير المسيحي والكنيسه لا تسمح بالصلاه على المرتد ولا ترحيم عليه
http://www.youtube.com/watch?v=KKPJzIaTx1Y
الأنبا بيشوى يقول الطوائف الأخرى مش داخلين الملكوت او انهم غير مقبولين عند الله ,, ويقول انه سيتوقف عن مهاجمتهم ( لو قالوا احنا مش مسيحيين )
http://www.youtube.com/watch?v=CyKU7bk_HN4
الأنبا بيشوي الأرثذوكسي يكفّر الكاثوليك و البروتستانت ويقول : الى بيقولوا ان عباد الاصنام هيخشوا السما من غير ايمان بالمسيح دول ينفع اعتبر ان احنا ايماننا وايمانهم واحد,, ويقول متى المسكين ان دى كارثه كبرى فى الكنيسه ان هى بتقول ان الى عايز يخش السما لازم يبقى ارثوذكسى )
http://www.youtube.com/watch?v=hHsO4HdAC_U
الأنبا بيشوى : هو انا دلوقتى خدت حقوق ربنا وحكمت لما قولت ان غير الارثوذكس مش هيخشوا ملكوت السما ويقول انا محددتش اسم شخص بالتحديد .. ولعنة الله على عقائد الكاثوليك 1_2
http://www.youtube.com/watch?v=BOO8vMYD9FY
الأنبا بيشوى - لعنة الله على عقائد الكاثوليك 2_2
http://www.youtube.com/watch?v=45m7fUfXNgk
الأنبا بيشوى يسخر من متى المسكين لأنه يقول أن البروتستانت و الكاثوليك سيدخلون السما و يؤكد أن اللى عايز يدخل السما لازم يبقى أرثوذكسى
http://www.youtube.com/watch?v=pAG9oYD3iLQ
الأنبا روفائيل : لن يدخل الجنة إلا الأرثوذكس فقط
http://www.youtube.com/watch?v=muxw5gc3jC0
البابا شنودة يحرم تناول القربان من عند الكاثوليك ويقول : بنسمى التناول _حتى عند الكاثوليك_ بيسموها ( الشركه المقدسه ) فلذلك لابد للناس تكون متحده فى الايمان عشان يتناولوا من مذبح واحد قبل كده لا يجوز
http://www.youtube.com/watch?v=0nnUdd_QrPg
الأب بولس جورج , لا يجوز زواج الأرثوذكس من الطوائف المسيحيه الأخرى
http://www.youtube.com/watch?v=bvwifDX_lx4
القمص بولس جورج يكفر الكاثوليك ويقول : لا يجوز التناول عندهم
http://www.youtube.com/watch?v=zfsvRZMnh9s
جمع وترتيب
الشيخ سيد بن فاروق الإنشاصي
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
https://www.facebook.com/profile.php?id=100010854390261
-
السيف البتار فى كفرمن إستعان على المؤمنين بالكفار الأدلة الشرعية على كفر الإستعانة بالكفار فى الحروب مقدمة إن الحمد لله نحمده...
-
· تلخيص كتاب منهج السلف فى الرد على اهل البدع إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره,ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات إعمالنا,من ...
-
الرقية الشرعية - من السحر والمس والعين والحسد ...